وآراؤهم إلاّ وحي عقيدة واضحة لا غبش فيها، ولم ينقسموا على غيرهم، ولا على أنفسهم يوماً من الدهر؛ لأنهم يعلمون أن في الافتراق والتشدد ومجانبة الجماعة والسير في ركاب الآخرين ضياع الحق الذي يحملون، قال أبو نعيم في الحلية، وساق سنده .. عن عطاء بن السائب عن الشعبي، قال: (ما اختلفت أمة بعد نبيها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقها) ..
وسبيلُ منْ لم يعلموا أنْ يحسنوا ظنّاً بأهلِ العلمِ دونَ نفارِ
قدْ يشفعُ العلمُ الشريفُ لأهلهِ ويُحِلُّ مبغِضَهُمْ بدارِ بوارِ
هلْ يستوي العلماءُ والجهّالُ في فضلٍ أم الظلماءُ كالأنوارِ
إن إمكانية حل هذا القضية من أساسها يسيرة لا تحتاج إلى تعقيد سياسي؛ لأن هؤلاء الكتبة أصحاب مآرب، وأرباب شهوات، وطلاّب مناصب، وعاشقو ثراء، ومثل هذه النوعية (العظمية) لا يزال خيال العظم يطارد أحلامها ويفترس هدوءها حتى تجده واقعاً حياً تنشغل به أفواهها النجسة ... !
إن هؤلاء الكتبة من الصحفيين المتهجّمين على العلماء؛ أهل عناد وتكذيب وتأبٍّ على الحق ونفور ممن يريد هدايتهم وإشعال فتيل قلوبهم بنور الإيمان، ولو كان الحق شمساً لرضي هؤلاء المنكوبون بالعمى يلجؤون إليه هرباً من النور ورحمة النور، وتلك بلية إذا أصابت العقل لم ينتج منها إلاّ معان مظلمة تتحيف النور من أطراف المعمورة.
وإن مصيبتهم العظيمة لم تأتهم من جهة العقل الصريح؛ لأن العقل نور يأبى أن يرسف في الأغلال، وإنما أتتهم من جهة أخلاقهم؛ فهم حين يفكرون في الحياة ويتأملون الواقع ويقرؤون المستقبل وينقدون الأفكار، إنما يفعلون ذلك وهم قد سلخوا جلد الحياء، وهتكوا حرم الصدق، وعبثوا بشرف الرجولة، وأرغموا أنف الكرامة ولطّخوا رداء الحشمة .. فإذا جاءت رؤاهم تتهادى بين السطور نافرة من الصدور؛ رأيت فيها سمادير المخمورين، ومرة المجانين، وزيف الدجّالين، وشعبذة المحتالين، ولم تجد فيها أفكاراً تصحح المسار أو تنشر النور أو تدعم العلم، ولم تجد على الحقيقة إلاّ صورة (البار) يجتمع فيه السابلة ممن لفظتهم الحياة، وبصقت في وجوههم الطرقات، ونفتهم المدينة الصالحة؛ ليصبوا جام غضبهم على المجتمعات التي نفرتهم؛ فهل يقبل من هؤلاء قول ينطقون به أو نقد يتبجحون به؟
إن هؤلاء الكتبة الخنانيص؛ كأوراق الجريدة، وحروفها، ودعايتها، استعمال لمرة واحدة، ثم مصيرها إلى أقرب حاوية نفايات، وأغلاط هي الصواب في نصر الحقيقة، واستلاب للمال على حساب العقل والحياة ... !
فيهمُ لُكنةُ النَّبيط و لكنْ تحتها جاهليَّةُ الأعرابِ
ليس فيهم مُدافعٌ عن حريمٍ لا ولا قائمٌ بصدر كتابِ
خيرُ ما فيهُم ولا خيرَ فيهم أنهم غيرُ آثمي المُغتابِ
ويبدو أن صحفياً من إخوانهم كان على عهد المأمون في مجلسه، فتكلم بكلام فيه رائحة الموتى فهذر ثم انتبه فقال: أأسكتُ يا أمير المؤمنين؟ فقال له المأمون: وهل تكلمت؟
ولو أننا نجد عندهم فكراً جديداً -ولو كان منحرفاً- لقدّرنا لهم ذكاءهم؛ إذ لم نقدر لهم صلاحهم، ولكنهم علم الله لا يخرجون عن نطاق النبّاشين يدسون آنافهم في القبور يستلهمون ديدانها وصديدها وعفنها؛ أفكاراً طواها الزمن فيما طوى، فذهب أهلها وفنيت صفحات أعمارهم، وخلّفوا كتباً تغيب عن ضجة الحياة سنين، ثم تعود بفعل هؤلاء النبّاشين إلى الحياة ... خلّفوها مثقلة بخطاياهم، وحملوا المعاني والأوزار في قلب الأرض يحاسبون عليها، ولهم يوم يقوم الأشهاد موقف عند الله تطير منه العقول .. !
حين يلقى إلهَهُ لمْ يَلدْهُ ذُو صلاح ولمْ يَلِدْ ذا صلاحِ
لا أباً مؤْمِناً يُعَدُّ ولا ابْناً مُؤْمِناً خابَ قِدْحُه في القداحِ
أي والله يا سادة يا كرام ما قرأت لواحد منهم إلاّ رأيت بياض الكفن يلوح من بين سطوره ورائحة الكفور تنفجر من سواد حبره، وعفن الصديد يفوح من زاويته .. ! ثم يزعم هذا النبّاش أنه أبو عذرة الأفكار، وعماد البناة المخلصين، والمبتلى بصلف المتشددين؛ فيهرع إليه كل مغموص في دينه، متهم في نواياه؛ مناصرة أو محامقة .. وما عرفوا الشيء الملفّف في البجاد!
وما للْحَيِّ في أكْفان مَوْتٍ لبوسٌ بعدما امتلأتْ صديدا
¥