ومن وصفه قال يصف سيفًا في ضمن مديح:
يشيِّعه قلبٌ رُوَاع وصارم * صقيل بعيد عهده بالصياقل
تَشيم بُرُوقَ الموت في صفحاته * وفي حده مصداق تلك المخايل
ومن تشوقه إلى الوطن الأبيات السائرة:
ولي وطن آليت ألا أبيعه * وألا أرى غيري له الدهر مالكا
وقد ألفَتْه النفس حتى كأنه * لها جسد إن غاب غودر هالكا
وحَبَّب أوطانَ الرجال إليهم * مآربُ قضَّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهمُ * عهودَ الصبا فيها فحنوا لذلكا
ومن هجائه:
يقتِّر عيسى على نفسه * وليس بباق ولا خالد
ولو كان يسطيع من بخله * تنفس من منخر واحد
ومن تأمله وحكمته قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها * يكون بكاء الطفل ساعة يولدُ
وإلا فما يبكيه منها وإنها * لأفسح مما كان فيه وأرغد
وروى عنه الخطيب البغدادي في ترجمته بيتين قالهما في احتضاره:
غلِطَ الطبيبُ علي غلطة مُورد * عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلْحُون الطبيب، وإنما * خطأ الطبيب إصابة الأقدار
وذكر له ابن خلكان في ترجمته قوله في المديح:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم * في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى، ومصابح * تجلو الدجى، والأخريات رجوم
واختار له بيتين من قصيدة في المديح مختارة بديعة، فأزيد على ما ذكر ابن خلكان:
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: * كلا لعمري، ولكن منه شيبان
وكم أب قد علا بابن ذرا شرف * كما علت برسول الله عدنان
تسمو الرجال بآباء وآونة * تسمو الرجال بأبناء وتزدان
ولم أقصر بشيبان التي بلغت * بها المبالغَ أعراقٌ وأغصان
لله شيبان! قوم لا يشوبهمُ * رَوْع إذا الروع شابت منه ولدان
قوم سماحتهم غيث، ونجدتهم * غوث، وآراؤهم في الخطب شُهبان
صانوا النفوس عن الفحشاء، وابتذلوا * منهن في سبل العلياء ما صانوا
المنْعِمون وما منُّوا على أحد * يومًا بنعُمى، ولو منوا لما مانوا
* * *
ووصْفُ ابن الرومي لأهل العبادة والتبتل من جملة ما وصف من الحياة البغدادية العباسية، فلم يترك شيئًا إلا وصفه واستقصى أوصافه، من المأكل والمشرب والنبات والمباني والمرأة، وأصناف الناس، وأصحاب الحرف، فشعره وشعر غيره في هذا الباب - يفيد من التاريخ الاجتماعي والحضاري ما لا تفيده التواريخ المعنية بأخبار الدول والملوك والوزراء والحروب والأحداث الكبيرة.
وهذه القصيدة التي معنا إنما هي لوحة بريشة ابن الرومي الرسام المتفنن، أو صورة - أو لقطة، إن شئت - بعدسة ابن الرومي المصور البارع، بل هي فيما أظن فوق ذلك، هي مقطع بالصوت والصورة الحية (فيديو) لقوم من أصحاب الليل " الذين يتركون لذة الراحة والنوم والفُرُش الموطَّأة - إلى لذة أكبر وأعظم، هي لذة الأنس بمناجاة الله، ودعائه وتلاوة كتابه، وهم في أمرهم بين الخوف والطمع، والإشفاق والرجاء، لا يقنطون ولا يأمنون، يتأوهون عند سماع آي الكتاب ويسجدون، ويسألون الله ما فيها من الخير، ويتعوذون مما تنذر به من العذاب، ويبكون، ويدعون الله أن يكفر عنهم سيآتهم، متوسلين بتذللهم وخضوعهم، إذ لا يغفر الذنوب إلا الله، ولم يكن الله ليضيع عملهم، وقد كَفَل للعاملين بالجزاء، وللداعين بالإجابة، وهي إجابة إن لم تقع في الأسماع وعتها القلوب " (مما كتبته في كتابي: الخلاصة).
وله مثلها من نحو قوله:
بات يدعو الواحد الصمدا * في ظلام الليل منفردا
قد جفَت عيناه غُمضَهما * والخلي القلب قد رقدا
في حشاه من مخافته * حُرُقات تلذع الكبدا
لو تراه وهو منتصب * مُشْعِرٌ أجفانه السُّهُدا
كلما مر الوعيد به * سح دمع العين فاطردا
ووهت أركانه جزعًا * وارتقت أنفاسه صُعُدا
قائل: يا منتهى أملي * وكأن الموت قد وردا
وخطيئاتي التي سلفت * لست أحصي بعضها عددا
فلي الويل الطويل غدًا * ليت عمري قبلها نفدا
ويح عيني ساء ما نظرت * ويح قلبي ساء ما اعتقدا
ليت عيني قبل نظرتها * كُحِلت أجفانها رمدا
فإذا مر الوعيد به * كاد يُفني روحه كمدا
وإذا مر الوُعود به * شد منه القلب والعضدا
ومن ذلك ما قاله في رثاء البصرة بعد ما خربها الزَّنْج في قصيدته الميمية البديعة التي أولها:
ذاد عن مقلتي لذيذَ المنام * شغلُها عنه بالدموع السجام
وفيها:
بل ألِمَّا بساحة المسجد الجامع إن كنتما ذوَيْ إلمام
فاسألاه ولا جواب لديه * أين عُبَّاده الطوالُ القيام؟
¥