تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويبدو أن الحادثة راعت أهل المدينة كلهم، فبكوها محزونين، وشيعوها متحسرين، فتجاوزت مصيبتها الأب والأم والقرابة إلى كل من علم بخبرها، وسمع نبأها، وكان الشاعر أحدهم فعبر عما ناب الناس في شأنها أحسن تعبير، مزج فيه الحزن بالحنوّ، والعذل بالعذر، والوصف بالنصح، وخطاب المنتحرة بخطاب الشباب من أمثالها واستخراج العبرة.

وقد ذكرتني هذه القصيدة ببضع مقالات كتبها الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بعنوان: (الانتحار)، تجدها مثبتة في (وحي القلم)، يجمعها بها شدة التأثر بالحدث، وأن الْمُقدم على الانتحار شاب، وأن الأديب انتهز فرصة الحادثة للتفكر في شؤون الحياة والموت، والوعظ في أمور الدنيا والدين، بنمط عالٍ من الأدب، وضرب نفيس من الفن. وليس سرًّا أن المقدم على الانتحار - وقد نجاه الله - في مقالات الرافعي هو الأستاذ محمود محمد شاكر، وكانت له به صلة المعلم بالتلميذ، أو الأب بالابن، فهزته الحادثة، وكتب فيها ما كتب من فائق النثر، ورائق القصص.

* * *

وأما رصف الشاعر محمد العيد فمحكم متسق، كأن القصيدة جملة واحدة، فهو نظم كالنثر في سهولته وانسجامه، وانظر مثلا إلى سبك هذا البيت:

مَن كان مرتكز اليقين فعسره * يسر عليه وبؤسه نعماء

كيف سدت (عليه) مكانها في الوزن بلا زيادة أو قلق، وأسلمت إلى مقابلة أخرى لم تحتج إلى مثلها، وهي: (وبؤسه نعماء)؟ أو إلى هذا البيت بعده:

ماذا جنت أمّ حَبَتْك حنانَها * وأب عليك له يد بيضاء

كيف تقدمت (عليك) وتركت لـ (بيضاء) التأخر لتستقر في القافية؟ أو إلى هذا البيت في أواخر القصيدة:

من ينج من بلوى يقع في غيرها * فمن البلاوي لا يتاح نجاء

كيف قال: (لا يتاح)، ولا يؤدي مؤداها في المعنى: (لا يكون)، أو (ليس ثم)، أو (ما هناك)، وهو يؤديه في الوزن؛ لأن (لا يتاح) يشير إلى طلب النجاء فلا يجاب.

وقد تجاوز الشاعر هذا إلى فن من البديع، هو الجناس الاشتقاقي، وقد شاع هذا الفن في القرن السادس وما بعده في الشعر، حتى إن قصيدة الشاطبي في القراءات مشحونة به، وبلغ به ابن الفارض مبلغًا لا مزيد عليه، ولا أظنه يجاريه في مجار. ومنه في هذه القصيدة:

صدَمَتْكِ من وادي الرمال صخورُه

وطواك منه لدى الْهُوِيّ هواء

بين (الْهُوِي) و (الهواء)، وقوله:

أسفي عليك ذَوَى شبابك فجأة

قبل الْجَنَى، وجنى عليك جفاء

بين (الجنى) اسمًا و (جنى) فعلا، وقوله:

عرَّضتِ عِرْضك للظنون وعسفها

إن الظنون مطيَّة عمياء

بين (عرضت) و (عرضك)، وأبدعُه بين (نعش) و (بنات نعش) في قوله:

هل فوق نعشك جثة أو توأم

لبنات نعش أو هي الجوزاء

ومثله الجناس الناقص في:

وفجيعة بك - يا عروس - وجيعةٌ

نُكبت بها الأهلون والقرباء

بين (فجيعة) و (وجيعة)، وفي قوله:

فكلاهما آسٍ عليك وآسفٌ

قد برَّحت بحشاهما البُرَحاء

بين (آس) و (آسف).

ومحمد العيد مولع بهذا الفن من البديع، مكثر منه، له فيه لباقة وأناقة، يأتي به سهلاً عفوًا بلا تكلف.

* * *

ومحمد العيد آل خليفة (1904 - 1979) بعدُ شاعر الجزائر على أيامه، ولد في عين البيضاء، وتعلم في بلده، ثم في جامع الزيتونة، وشارك في تأسيس جمعية علماء الجزائر، وفي نهضة الجزائر الوطنية والعلمية والأدبية.

ويكفي في وصف شاعريته وشعره قول الإمام محمد البشير الإبراهيمي: " شاعر الشباب، وشاعر الجزائر الفتاة، بل شاعر الشمال الإفريقي بلا منازع. شاعر مستكمل الأدوت، خصب الذهن، رحب الخيال، متسع جوانب الفكر، طائر اللمحة، مشرق الديباجة، متين التركيب، فحل الأسلوب، فخم الألفاظ، محكم النسج ملتحمه، مترقرق القوافي، لبق في تصريف الألفاظ وتنزيلها في مواضعها، بصير بدقائق استعمالات البلغاء، فقيه محقق في مفردات اللغة علمًا وعملاً ... لا تقف في شعره على كثرته على شذوذ أو رخصة، أو تسمح في قياس، أو تعقيد في تركيب، أو معاظلة في أسلوب، بارع الصنعة في الجناس والطباق وإرسال المثل ... ومن يعرف محمد العيد ويعرف إيمانه وتقواه وتدينه وتخلقه بالفضائل الإسلامية يعرف أن روح الصدق المتفشية في شعره إنما هي أثر من آثار صدق الإيمان، وصحة التخلق، ويعلم أنه من هذه الناحية بدع في الشعراء. رافق النهضة الجزائرية في جميع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير