تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذلك أن الفن ما هو إلا اعتمال المعنى في النفس، وغليانه فيها، يجد أداة طيعة جيدة التوصيل، فيُشرك الآخرين فيما هو في أطواء النفس وأغوارها، لم يطَّلع عليه إنسان، ولا يبلغُ كنهَه باحث، لولا هذه الموهبة المسماة: البيان.

الشاعر أستاذ في الأدب، وما كل أساتيذ الأدب شعراء، فكيف لو قارن العلمُ الفنَّ، وصاحبت الحرفة الموهبة، ووافق التخصص الهوى، ثم تحركت النفس بما يصيب الإنسان من أحداث الحياة، وصروف الزمن، وأراد المرء إبلاغ ما يجري في عالم النفس إلى عالم الناس؟ لا شك أنه لا يصنع إلا فنًّا كهذا.

محمد رجب البيومي، الأستاذ الدكتور، الأديب الباحث، الناثر الشاعر، الأزهري المصري، المعلم المربي، صاحب الكتب النافعة، والمقالات الماتعة، ولد سنة 1923. ماذا ترى في هذه السن، وهذا التخصص، وهذه البيئة، وهذا العمل؟ هو إذًا من أهل الدار، يسكن في أدخَلِ غرفة فيها، نفَسُه الذي يتنفَّسه اللغةُ والأدب والشعر والقرآن!

وإني - والله! - لم ألقه في حياتي، ولا بيني وبينه من صلة، إلا صلة القارئ بالكاتب، والطالب بالعالم، والمريد بالشيخ. كنت أقرأه في مجلة الهلال المصرية، منذ آحاد التسعين من القرن الماضي، وكانت مجلة الهلال تحرص فيما تتبعت من أمرها في تلك الأيام على أن يكون فيها في كل عدد مقالة تراثية أو إسلامية، وكانت الهلال في تلك الأيام تقوم مقام الرسالة في آحاد الثلاثين والأربعين، وكان الأستاذ يكتب لها مقالات متباعدة، وكان كاتب المقالة التراثية أو الإسلامية في الغالب هو أستاذنا الدكتور محمود الطنَاحي - عليه رحمة الله! - ثم وقعت الواقعة، واختطفت المنون علاَّمة التراث الطنَاحي (توفي يوم 23/ 3/1999)، فكان الذي سدَّ هذه الثُّغرة هو الأستاذ البيومي، والتزم بكتابة مقالة للهلال في كل شهر، إلى أن حالَ حالُ الهلال.

وأذكر أني قرأت مقالة له في ذكرى المولد النبوي في هلال 6/ 2000، وكتبت تعليقًا عليها نشر في هلال 9/ 2000، وقلت فيه (ص 202): " حيَّا الله كلَّ كاتب يطلب الحق، ويقول السداد، ويتحرى الصواب، ولكنَّ للنفس هواها، وللقلب ميلَه، ولا بأس بالهوى إذا كان غير متبوع، ولا جُناح في الميل إذا كان غير مملوك. وإني لتروقني أيَّما رَوْق مقالات الأستاذ الكبير الدكتور محمد رجب البيومي في الهلال، وأخص بالذكر مقاله في ذكرى المولد النبوي (6/ 2000)، وما فيه من الصفاء العجيب، والتدفق الآسر، والتفكر السامي. هنيئًا للهلال كاتبها الكبير، وكُتَّابها: الباحث المفكر الدكتور محمد عمارة، والأديبة اللبيبة صافيناز كاظم، والمؤرخ المنصف طارق البِشْري، أكتب هذا الكلام وعلى خدي دمعة على أستاذنا المحقق الضليع محمود الطنَاحي، رحمه الله رحمة واسعة! ".

وما كنت أدري يومها أن الأستاذ البيومي شاعر من هذا الطراز المبدع المغمورِ شعرُه، المغموطِ حقُّه، المطويةِ صفحتُه، في دولة الشعر والشعراء، وقد دخلها كل داخل، وأناخ فيها كل ناثر، ثم مَن هو دون الناثر، ثم مَن هو دونَ دونَ.

هذه الكلمة للأستاذ البيومي من ديوانه " حصاد الدموع "، وقد رثى في الديوان كلِّه زوجَه، لاميةٌ مرفوعة، تناسب: يُعوِلُ، ويولول، كما ترى. من الطويل، البحر المتسع، تتباعد فيه القافية، فلا تُكرِه الشاعر على معنى لا يريده، فهو يصل إليها غير مُنْبَهِر، ولا مُعْنَت، يختارها لمعانيه، ولا تختار له المعاني. وله إيقاع هادئ بطيء، يلائم كل فكرة مستقرة، وكل عاطفة توطَّنت عليها النفس، فهو في المراثي كالبكاء بالصوت الخفيض، وسرد الشكوى طويلة الأجزاء، متعددة النواحي، متوالية الفصول.

وهي أحدٌ وثلاثون بيتًا، مقسومة شطرين بالسوية، أو ما يشبهها. الشطر الأول منها في وصف وقع المصيبة على أطفاله - ووقعُها على أطفاله مصيبة أخرى - والشطر الآخر في وصف وقعها عليه. فهو إذًا يحمل هَمَّين ومصيبتين. والأب يحمل همَّ أبنائه إن غابت أمهم غيبة مؤقتة، فكيف بغيبة الأبد؟!

لن أنثر لك القصيدة فأفسدَ جوَّها، وأعكِّرَ صفوَها، فأكون كمن يفرغ العسل من قواريره الأنيقة على الأرض!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير