ولكنِ انظر إلى هذا المطلع المصرَّع، فيه ضمير لغائبِينَ، سَرعان ما يُعرَفون، ويُعرَف ما يريدون من مقالهم المقتصر على كلمة واحدة، هي: (ماما)، وهذا يوحي بصغر السن، إذ لا يقوى الصغير إلا على قول كلمات معدودات، ويكتفي بالكلمة عن الجملة، فلا يطيق تأليف جملة، أو هو يقول ذلك فعلَ الباكي الداعي أمه إلى تلبيته:
يقولون: (ماما) كلما عنَّ مشكِلُ
وأولى بهم أن يسكتوا لو تعقَّلوا
(وأولى بهم أن يسكتوا) لأنه لا جدوى من دعاء الأموات، ولا يزيد دعاؤها في حال انقطاع الأمل من عودتها الأبَ إلا حسرةً على حسرة، وإلا ألَمًا على ألم؛ إذ يذكِّرونه بهمه، ويحمِّلونه همَّهم على همه.
ثم انظر إلى هذه الإضافة العجيبة التي لا تتهيأ إلا لأصحاب الملكة الراسخة:
ومِن دون (ماماهم) ترابٌ وجندلُ!
وفيها إشارة من طرف خفي إلى أنها إن كانت (ماماكم) التي لا تستغنون عنها، ولا تعيشون بغيرها، فهي زوجي أيضًا، وبي من الألم على فراقها ما بكم! وثَمَّ ألَمٌ ثالث، أن أطفالي يستغيثون بي حيث لا حيلة لي، ولا مُكنة عندي، فأنا وهم في العجز سواء!
وقوله: (ليَسْكُتَ لا يدري الذي هو يفعل) اللام للعاقبة، و (لا يدري) في موقع الحال، و (الذي) مفعول (لا يدري). وإنما أعربتُه لك لأدلَّك على المعنى؛ لأني توقفت في معناه أول الأمر، وهذا هو الشطر الوحيد الذي لا يَسْلَس لفظُه ومعناه سلاسةَ بقية القصيدة، وهي كالماء العذب الصافي المتدفق.
وفي القسم الآخر من الشطر الأول من القصيدة وصَفَ حالهم معها قبل فقدها؛ ليدل على عظم المصاب، وفداحة الخطب، وقد بدأ من قوله:
تَرَبَّوْا فراخاً في العِشاش تَزُقُّهم
حمامةُ أيْكٍ بالأهازيج تهدِلُ
وهديلها إنما هو كناية عن سرورها بما تعمل.
وانظر إلى قوله:
وإن عصفت ريحٌ بغصن تجمعت
تقيهم هبوب الريح ساعة تُقبل
وكيف عبر عن ضمها لهم، وخوفها عليهم، بقوله: (تجمعت)؟ فهي كالثوب يتجمع ويلتف حول صاحبه.
وفي الشطر الآخر من القصيدة يصف ما فعل به الفقد، وكيف كانت هي له؟ وسيرتها معه، وأين كانت من نفسه؟ كما فعل في الشطر الأول منها في وصف حالها مع أطفاله، وهو يبدأ من قوله:
لِيَ الله من ذي حسرة برحيلها
لها مسرَبٌ بين الجوانح مُوغلُ
وقد ساعدته القافية المرفوعة على سهولة تتميم المعاني بالمبتدأ والخبر يجيئان بعد انقضاء المعاني يتمِّمان، ويزيدان المعنى فائدة مكمِّلة، في: (والريقُ حنظلُ) - وفيه الإيجاز الدالُّ بالتشبيه البليغ مُسقَط الأداة - (وهو معضِل)، وساعدته على استعمال المضارع المرفوع مثبتًا ومنفيًّا في تقرير زمن الحال، وفي استحضار الماضي إلى الحال.
ولا يعد قوله:
يلومونني أن صرتُ أبكي فراقَها
فكيف وقد ضعنا معًا أتحمل؟
إلا من باب فقدان المحزون صوابه، فهو يقول الكلام الذي لا يقدِّر معناه؛ لأن الميت غير ضائع، وما كان أحسنه لو جاء قوله: (وقد ضعنا معًا) مرادًا به نفسُه وأطفاله! ولو جاء كذلك لكان أوقع وأصوب.
ثم يجيء الختام رجوعًا إلى ما بدأ به من ذكر دعاء أطفاله بقول: (ماما)، وإقفالاً لنغم القصيدة ببيت واحد ردَّد فيه ذكر أكثر مواقف القصيدة وصورها تأثيرًا في النفس، واستدرارًا للرحمة، وهو موقف الأطفال الفاقدين أمهم، المتضاغين بقول: (ماما)، وزاد عليه هنا التصريح بأن حالَه حالُهم، وله صياحٌ كصياحهم، ولكنه صياحٌ مكتوم، ووجد مكظوم، ولو ظهر لكان ولولةً وعويلاً:
إذا صاحت الأطفال: (ماما) فإنني
بوا زوجتا! ما بين نفسي أولول
لا شك عندي أن هذه القصيدة من أصدق الرثاء، ومن عيون الشعر، ومن أنصع نماذج الأدب الحديث والمعاصر، وبها وبأمثالها يُعلَم أن الشعر الموزون المقفى على طريقة القدماء يُمكن أن يحلِّق في أيامنا هذه في سموات عالية، لو وُجدت الموهبة، واكتملت الملكة، وصدقت العاطفة.
27/ 2/2009
يقولون: (ماما)
لمحمد رجب البيومي
يقولون: (ماما) كلما عنَّ مشكلُ
وأولى بهم أن يسكتوا لو تعقَّلوا
يقولون: (ماما)! ما الذي أنا صانعٌ؟
ومن دون (ماماهم) ترابٌ وجَنْدلُ
يصيحون بي هلاَّ ذهبتَ تعيدُها؟
كأني بردِّ الراحلينَ مُوَكَّلُ!
شديدٌ على نفس الأب البَرِّ موقفٌ
يُهيبُ به أطفالُه ثم ينكُلُ
¥