ـ[حازم]ــــــــ[09 - 09 - 2004, 09:34 ص]ـ
بَكَى المُحِبُّ وأيْدِي الشَّوْقِ تُقْلِقُهُ & أصابَهُ خَرَسٌ فَالدَّمْعُ مُنْطِقُهُ
ما عِنْدَهُ غَيْرُ قَلْبٍ ماتَ أكْثَرُهُ & وما تَبَقَّى لَهُ إلاَّ تَعَلُّقُهُ
وما كَفَاهُ الهَوَى حتَّى يُطالِبُهُ & دَهْرٌ إلَى كُلِّ سُلْوانٍ يُشَوِّقُهُ
فَمَنْ لِقَلْبي بِتَسْكِينٍ يُثَبِّتُهُ & ومَنْ لِجفْني بِتَغْميضٍ فأُطْبِقُهُ
أستاذي الكريم / " أبو أيمن "
ما أسعدني بصحبتك، وما أحوجني إلى علمك.
كم من دقائقَ أبرزتَها، وكم من خفايا أشرقتَها.
ما أروع السؤال، وما أشدَّ تقصير المجيب.
وما أراك إلاَّ قد أحسنتَ الظنَّ في مَن هو ليس له أهلاً.
لعلِّي أرى في الإجابة عن الإشكال الذي يحصل حين يفقد خبر النكرة التعريف، أنَّ هناك إجابتين: عامَّة، وخاصَّة:
فالإجابة العامَّة تشمل كلَّ المواضع المذكورة ضمن استفسارك، فيما تختصُّ بعض المواضع بإجابة منفردة.
فأقول – مستعينًا بالله، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ به -:
الأصل الذي بُنِيَ عليه الكلامُ عند النحاةِ: عبارة عن اللفظ المفيد فائدةً يَحسُنُ السكوتُ عليها.
ثم اصطلَح النحويون على أنَّ الخبر هو الجزء المُتمُّ للفائدة مع المبتدأ.
والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة، لأنه محكومٌ عليه، فلا بدَّ من تعيينه أو تخصيصه بمسوَّغ، لأنَّ الحكم على المجهول المطلق لا يفيد، لتحيُّر السامع فيه، فينفر عن الإصغاء لحكمه المذكور بعده.
فإذا كان المبتدأ نكرة لقصد معنًى من المعاني، فلا بدَّ أن يتحمَّل الخبر معنًى زائدًا يَسَوِّغ للنكرة أن تعتلي مقام الابتداء، فيعطي المجموع المكوَّن من المبتدأ والخبر فائدة للسامع.
فإذا نزعنا هذا المعنى من الخبر، لم تصلح الجملة أن تُسَمَّى " كلامًا " عند النحويين.
وهذا منطبقٌ على جميع الأمثلة الآتية:
بطلٌ في حرب
كلٌ محاسب على عمل
ولحلم أوقاتٌ
شفاءٌ لمريض
ما الذي في جيب؟ نقودٌ.
قال ابن هشامٍ في " المغني "
(وشرط الخبر فيهن الاختصاص، فلو قيل في: " دار رجل "، لم يجز، لأن الوقت لا يخلو عن أن يكون فيه رجل ما في دار ما، فلا فائدة في الإخبار بذلك.) انتهى
وقال في موضع آخر:
(وليست كل صفة تحصل الفائدة، فلو قلت: " رجل من الناس جاءني " لم يجز) انتهى
أقول: لكون وصفه أنه " من الناس " لم يُعطِ فائدة، ولم يتميَّز بصفة خاصة، بل حذفها مثل إثباتها.
وقال الأشموني في شرحه على الألفية:
(فإن قلتَ: الاختصاص نحو: " عندَ رجلٍ مالٌ " و" لإنسانٍ ثوبٌ "، امتنع لعدم الفائدة) انتهى
أمَّا الإشكال الحاصل في: " كل يوم أذهب للتعلم، كتبٌ في يد "، فمن وجهين:
الوجه الأول: عدم وجود مسوِّغ للابتداء بالنكرة.
الوجه الثاني يَنبني على القول بأنَّ المسوِّغ لها: ابتداء جملة حالية.
قلتُ: لا بدَّ من وجود رابط لها، والرابط إما أن يكون حرف الواو، ,إما أن يكون ضميرًا يعود على صاحب الحال.
فمثال الواو، قول الشاعر:
سَرينا ونَجمٌ قد أضاءَ فمذ بدا & مُحيَّاكَ أخفى ضوؤه كلَّ شارِقِ
فكلمة " نجم ٌ " نكرة في ابتداء جملة حالية.
ومثال الضمير:
تَرَكْتُ ضَأْنِي تَوَدُّ الذِّئبَ رَاعِيهَا & وأنَّها لا تَراني آخِرَ الأبَدِ
الذِّئبُ يَطْرُقُها في الدَّهْرِ واحِدةً & وكلَّ يَومٍ تَراني مُدْيَةٌ بِيَدي
فـ" مدية " مبتدأ، سوَّغه كونه بدءَ جملةٍ حالية من ياء " تراني "، ولم ترتبط بالواو، بل ارتبطت بالياء من " يدي ".
أستاذي الفاضل: لعلِّي لم أصل إلى مَرماك، وهذا مرجعه علُوُّ آمالك، وسُمُوُّ أهدافك، ولعلَّ أحدًا غيري قادرٌ على تقويم العجز، وإكمال النقص، والله أعلم.
أمَّا ما استطعتُ أن أفهمه من سؤال الأستاذ الفاضل / " أبو ذكرى " الرائع، والذي يدلُّ على عُمق فهمه، وآصالة علمه، فأقول - راجيًا أن لا أجانب الصواب في تقدير سؤاله -:
المعلوم أنَّ من مسوِّغات الابتداء بالنكرة أن يتقدم الخبر عليها:
وهو ظرف، نحو قوله تعالى: ((ولَديْنا مَزيدٌ)) سورة ق
أو جار ومجرور: نحو قوله عزَّ وجلَّ: ((وعَلَى أبْصارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) سورة البقرة
فهل يكون الخبر المتقدِّم جملة؟
نعم، يصحُّ أن يكون جملة، فقد جاء في شرح " الهمع ":
(وإلحاق الجملة في ذلك بالظرف والمجرور) ذكره ابنُ مالكٍ.
ومثَّل لذلك: " قَصَدَكَ غُلامُهُ رَجُلٌ ".
قلتُ: ولم يُعَيِّن ابنُ مالكٍ – رحمه الله – نوع الجملة، ومثَّل للفعلية.
فجملة " قَصَدكَ غُلامُهُ ": فعلية في محلِّ رفع خبر مُقدَّم للمبتدأ " رجل ".
قال أبو حيان: " ولا أعلم أحدًا وافقَه "، يعني: وافقَ ابنَ مالكٍ.
ولكن جاء في شرح " الهمع ":
" وقد وافقه عصريُّه البهاءُ بن النحاس، شيخ أبي حيان في تعليقه على " المقرب ".
أقول: ووافقه أيضًا ابنُ هشامٍ – رحمه الله – في " أوضح المسالك " في موضعين في كتابه، ومثَّل بمثال ابن مالك.
ووافقه أيضًا الأشموني في شرحه على الألفية: ومثَّل " قَصَدكَ غُلامُهُ إنسانٌ ".
ووافقه كذلك الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل.
وقرَّره عباس حسن في كتابه " النحو الوافي ".
فإن قال قائل: كيف جاز عود الضمير في قوله " غلامُهُ: على متأخِّر؟
قلتُ: يجوز عود الضمير على متأخِّرٍ لفظًا لا رتبة، إذ أنَّ رتبة المبتدأ التقديم، فلذلك جاز عَوْدُ الضمير إليها.
كقولهم: " في أكفانِهِ دَرجَ الميَّتُ "، وقوله: " بِمَسْعاتِهِ هلكَ الفتَى أو نجاتهِ ".
وأقول: لعلَّ قولَ ابنِ مالكٍ: " وإلحاق الجملة "، يشمل الاسمية والفعلية، واكتفَى بالتمثيل للفعلية، والله أعلم.
وللجميع خالص تحياتي وتقديري
¥