[من السيرة العمرية]
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 02 - 2009, 08:37 ص]ـ
لما قتل خنيس بن حذافة، رضي الله عنه، يوم بدر، تأيمت منه حفصة، رضي الله عنها، فسعى الفاروق، رضي الله عنه، سعي الأب المشفق، في زواجها، فعرضها على ذي النورين، رضي الله عنه، فبدا له ألا يتزوج آنذاك، ثم عرضها على الصديق، رضي الله عنه، فسكت، فوجد عمر في نفسه على أبي بكر، ولم يفتقر إلى شجاعة يواجه بها ثاني اثنين بذلك لما سأله متلطفا، ومعتذرا بذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها، فلعله أراد الزواج بها، إكراما لوزيره الثاني وقد كان في قصة معروفة روتها كتب السير فيها من اللطائف شيء كثير:
فإن عمر، رضي الله عنه، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين لم يجد غضاضة في أن يعرض ابنته على الأفاضل الأكفاء، بل إنه يرى ذلك حقا له على الجماعة المسلمة، فإن بقاء ابنته متأيمة: نازلة تحتاج إلى من يرفعها، ولن يكون ذلك إلا بتزويجها، فلتتحمل الجماعة المسلمة إذن عبء ذلك بأن ترشح الكفء لتلك الزيجة. ولم يكن رد فعل الأصحاب، رضي الله عنهم، على وزان: "وأنا مالي يا عم؟!!! " كما يقال عندنا في مصر، فإن الفردية والسلبية لم تكن من سمات الصدر الأول، بل كانوا جميعا على قلب رجل واحد، يسعى بذمتهم أدناهم، يتداعون لبعضهم بالسهر والحمى، فاعتذر عثمان، رضي الله عنه، وليس ذلك بقادح فيه، إذ لم يفتقر هو الآخر إلى شجاعة في الرد، فالزواج ليس مجاملة عابرة يصل بها الصاحب صاحبه، بل هو أمانة، فلا عيب أن يرد عثمان، رضي الله عنه، العرض، إذ لا حاجة له في الزواج آنذاك، فلا يأمن ألا يعدل، فيقع في الإثم إن قصر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأما الصديق، رضي الله عنه، فهو كما عهدناه من سيرته العطرة، لا يألو جماعة المسلمين نصحا، فسكت لعل عمر، رضي الله عنه، يحظى بتلك المصاهرة، فإن لم يكن ذلك فلن يتردد في قبول العرض العمري، مع أن دخول حفصة، رضي الله عنها، على بيت النبوة، بأقيسة أهل الدنيا، دخول "الضرة" لابنته عائشة، رضي الله عنها، فالطبع البشري، يكره ذلك ويرده، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها كاف في رد تلك النوازع البشرية، فإن الرضا بما يسره، والسعي فيما يريده، مئنة من كمال الإيمان، فطاعته من طاعة الله، عز وجل، ورضاه من رضا الرب المنعم، جل وعلا، وقد كان لعمر، رضي الله عنه، فوق ما أراد، فصار صهرا لخير الخلق، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصارت ابنته، رضي الله عنها، أما للمؤمنين على طول الدهر.
ولم يكن الفاروق، رضي الله عنه، ممن تسيره الأهواء الشخصية والنوازع البشرية، فلم يسرها لعثمان، رضي الله عنه، في نفسه، ليثأر لها، فقد ترفع عن حظ نفسه، وإن انتابها من العوارض البشرية الجبلية بداية ما ينتاب بقية الأنفس، بل يؤتمن يوما ما على عرض مسلم، وكله أن يزوج ابنته الكفء، فلا يجد إلا عثمان، رضي الله عنه، الذي رده يوما ما، فكانت تلك المرأة أم عمرو بن عثمان كما ذكر صاحب "منار السبيل" في كتاب "النكاح".
وفي تلك الزيجة التي تولى عمر، رضي الله عنه، أمرها، صورة صادقة لا تكلف فيها على طريقة: "وضع حجر الأساس"!!! في واقعنا المعاصر لكثير من المشاريع التلميعية الوهمية، صورة صادقة للحاكم المسلم الذي يتولى أمر رعيته، فهو الوكيل عنهم إذا غابوا، وهو الذي يكتب رسائل زوجات الجند إلى أزواجهن على الثغور، وهو الذي يشتري لهن حاجاتهن من السوق لئلا يغبن، وهو الذي يعس في المدينة ليلا، كما تواتر من السيرة العمرية، وهو باختصار: عمر بن الخطاب وكفى!!!.
بل إنه يختار ذا النورين مع من اختار من الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو عنهم راض، فيستبعد ابنه وابن عمه، ولو قيس الأمر بأقيسة الأهواء الشخصية والحظوظ النفسانية، لكان الابن أولى، أو ابن العم، أو الصهر الذي تزوج عمر، رضي الله عنه، ابنته، علي، رضي الله عنه، فإن له حظوة عنده، وأين من زوجني ابنته ممن رد ابنتي؟!!، ولكنه التجرد من حظوظ النفس، وحظ النفس في الانتقام، حظ عظيم، لا يسلم منه إلا أصحاب النفوس الكبيرة، وأي نفس أكبر من نفس صنعت على عين الوحي؟!!.
ويوما ما خرج أحد السذج عندنا في مصر ليقول بأن وجدان عمر، رضي الله عنه، على أبي سليمان، خالد بن الوليد، رضي الله عنه، وسعيه عند الصديق، رضي الله عنه، في عزله، وعزله بعد أن تولى الخلافة، اجتهادا منه لئلا تتعلق النفوس بخالد، رضي الله عنه، إذ لا قبل لعدو به، فهو الذي قيل فيه إنه: لا ينام ولا يدع غيره ينام!!!، وذلك مظنة أن الافتتان به، ولا ريب، خرج ذلك الساذج ليقول بأن ذلك كان على خلفية مشاجرة وقعت بينهما زمان الصبا إذ كانا من أشجع فتيان قريش، فأسرها عمر، رضي الله عنه، في نفسه، حتى تولى الخلافة فثأر من خالد على خلفية تلك "الخناقة"!!!، كما يقال عندنا في مصر، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على خسة همة القائل، فهو يقيس نفوس الصدر الأول العلية على نفسه الدنية، وقد علم ما كان بين الرجلين من الود الذي شابه ما شابه انتصارا للدين، فلم يكن لأحدهما فيه حظ نفس، حتى أوصى خالد لعمر فكان الأخير وصيه بعد موته، وهي صورة أخرى من صور التجرد والترفع عن نوازع النفس.
وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا، كما وصفهم ابن مسعود، رضي الله عنه، وما ظنك برجال عدلهم الوحي هل يقبل فيهم جرح؟!!.
اللهم ارض عن الصدر الأول صحب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين.
والله أعلى وأعلم.