من قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ)
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 02 - 2009, 08:22 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ):
فإن الاستدلال بها على صحة دين النصارى لمجرد أنهم أقرب إلى ملة الإسلام من اليهود والذين أشركوا، استدلال باطل، فهم مع ضلالهم الذي فاق ضلال اليهود، أصحاب عبادة وتخشع وبكاء مع جهل مطبق في الإلهيات، بخلاف أقرانهم من أهل الكتاب الأول: يهود، فهم الأمة الغضبية التي علمت من الإلهيات ما علمت، وجحدت وكتمت منها ما جحدت وكتمت فكان علمها وبالا عليها إذ لم يتوج بعمل صالح، فجماع الأمر: إخلاص لله، عز وجل، بتصحيح التصور: ربوبية وألوهية، ولا يكون ذلك إلا بالتزود بخير زاد: علم النبوات الصحيح الصريح فهو صحيح السند إلى رب العالمين صريح ينسجم مع الفطرة السوية والعقل السليم الذي لم يتخبط بين المقالات الأرضية: بنات أفكار العقول الحائرة المضطربة التي نادى أصحابها على أنفسهم بالجهل والحيرة، فلا يجدي الإخلاص شيئا بلا علم نافع، إذ العابد الجاهل فريسة سهلة للشيطان، فالعبادة بلا علم: مظنة الوقوع في البدعة بنوعيها: العلمية وهي أخطرها، والعملية وهي طريق الأولى، بل لا يكاد ينفك صاحب البدعة العلمية عن فساد في العمل، وصاحب البدعة العملية عن فساد في العلم، فهما قرينان متلازمان.
والعلم بلا عبادة: مئنة من فساد النية وسوء القصد وحظ النفس، كما يظهر من حال يهود، أخسر الناس أعمالا.
وبعد العلم النافع: العمل الصالح، فهو لازمه، إذ صحة الحكم فرع عن صحة التصور، فإذا صح تصور العبد لأمر الإلهيات العلمية صح عمله بالحكميات العملية، وكلاهما قبس من مشكاة النبوات: أعظم نعم رب السماء على أهل الأرض، فهي الواسطة بين الرب العزيز الغني المنعم الحكيم في قدره وشرعه، والعبد الفقير إلى تدبير ربه، كونا وشرعا، فلا يستقل تصوره القاصر بإدراك سبيل النجاة مفصلا وإن تصوره مجملا، فلا غنى له عن علم النبوة الذي يفصل ما أجمل من فطرة التوحيد فيبسط أخبارها ويقرر أحكامها.
الشاهد أن الاستدلال بتلك الآية: اجتزاء ببعض النصوص في تحكم واضح، بل بتر للنص الواحد ينم عن سوء نية مبيت، أو نقص، وإن شئت فقل، عدم استقراء لنصوص الباب في الكتاب المنزل والسنة المطهرة.
فإن ما بعد هذه الآية ينقض استدلال من استدل بها على صحة دين النصارى، إذ قصر الحكم على الذين وصفهم الله، عز وجل، بقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)، فهم الذين آمنوا بالرسالة السابقة كما نزلت، فأداهم ذلك إلى الإيمان بالرسالة اللاحقة، إذ كانت تصديقا لما بين يديهم من الكتاب الذي لم تطله يد التحريف والتبديل الآثمة.
فصار الضمير في: "سمعوا": راجعا إلى جنس المذكورين في قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، دون أعيانهم، إذ لا يلزم من رجوعه إلى الكل رجوعه إلى كل فرد بعينه، كما لا يلزم من إطلاق الأحكام العامة جريانها على كل فرد بعينه، فقد يتخلف الحكم في حق بعض المكلفين، وربما أكثرهم، لفقدان شرط أو وجود مانع.
وهذا ما اصطلح البلاغيون على تسميته بـ: "العام الذي أريد به خاص"، فالضمير في: "سمعوا": عام لجنس من تقدم من الذين قالوا إنا نصارى، خاص بمن آمن منهم فلا يشمل حكمه كل من قال: أنا نصراني، وإنما يخص بمن قال أنا نصراني ابتداء، مصدق بما جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم انتهاء، إذ هو لازم التصديق الأول، فكلا الرسالتين قد خرج من مشكاة واحدة، فالتفريق بينهما: تفريق بين متماثلين يرده العقل الصريح.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
¥