وقد ذكَّرنى انتشار الفهارس و مضرتها بكلمةٍ قالها التابعىُّ الجليل محمد بن سيرين رحمه الله لما انتشرت الكتابه فقال: " وددت أن الأيدى قطعت فى الكتابة " قيل له: لم؟ قال: لأنها ضيعت الحفظ! ولست أجحدُ فائدة الفهارس، وأنَّها سهَّلت على أهل العلم مهمتهم، و أشاعت بين العامة الاهتمام بالسنة، والبحث عن صحيحها و سقيمها ولكن: ((لكل شىء إذا
ما تم نقصانُ)).
فظاهرةُ التعالمُ هى التى شوهت جمالَ هذه النهضة، وأتاحت هذه الفهارسُ لكل متنفخٍ أن يتطاول على الشوامخ، وكم لهذا التعالم من مضارٍّ، من أهوانها– مع فداحته – أن يختلط العالم بشبيه العالم، و لا يميز الناس بينهما، فيستفتون شبيه العالم فيقع الخبط والخلط ومما يدل على صحة ما أقول ما أخرجه الشيخان من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه في قصة الذى قتل مائة نفس. وفى الحديث أن القاتل سأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب فسأله، فقال: إنى قتلت تسعة وتسعين نفسا فهل لى توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج الى أرض كذا وكذا .. إلى آخر الحديث المشهور، فما دلت الناس القاتل على الراهب الأول إلا لأنها تظنه عالما لتشابه أزيائهم ووجوههم، وهكذا كل من لبس جبة وعمامة، وأرخى لحيته فهو عند العوام عالم.
ويذكرنى هذا التشابه بين العالم وشبيهه مع البون الشاسع بينهما فى الجوهر بقصة ذكرها أبو الفرج فى " الأغانى " (8/ 211) فقد ذكر أن الشاعر ثابت بن جابر، المعروف بـ ((تأبَّط شرَّا)) لقى ذات مرة رجلا من " ثقيف" يقال له: " أبو وهب "، وكان رجلا أهوج، وعليه حُلَّةٌ جيِّدةٌ، فقال أبو وهب لتأبَّط شرا: بم تغلب الرجال يا ثابت، وأنت كما ترى دميم وضئيل؟! قال: باسمى!! إنما أقول ساعة ألقى الرَّجل: أنا تأبَّط شرًّا، فينخلع قلبه، حتى أنال منه ما أردت! فقال له الثقفى: أبهذا فقط؟! قال: قط! قال: فهل لك أن تبيعنى اسمك؟ قال: نعم، فبم تبتاعه؟ قال: بهذه الحُلَّة،
وبكنيتى. قال له: أفعلُ. ففعلا، وقال تأبط شرا: لك اسمى ولى اسمك، وأخذ حُلًّته، وأعطاه طمريه، ثم انصرف. فقال تأبط شرا يخاطب زوجة هذا الثقفى:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلَها تأبَّط شرًّا واكتنيتُ أبا وهبِ
فَهَبْهُ تسمَّى اسمى وسمَّانى اسمَهُ فأين له صبرى على مُعْظَمِ الخطْبِ
وأين له بأسٌ كبأسى وسَوْرتى وأين له فى كلِّ فادحةٍ قلْبى
وقد توجع بعض الأذكياء من كثرة أشباه العلماء فى ديار المسلمين، وأطلق عليهم اسم ((المجدينات)) بدل ((المجددين))، فقال له سامعُهُ: وما المجددينات؟ ما هو بجمع مذكر سالم، ولا جمع مؤنث سالم؟ فقال له: هذا جمع ((مخنثٍ)) سالم!! فأقسم له سامعه أن اللغة العربية فى أمسِّ الحاجة الى هذا الجمع، خصوصا فى هذه الأيام!
فإذا كان الخطأ ملازما للبشر؛ لا يعرى عنه مخلوق مهما اجتهد واحتاط لنفسه فى تحرى الحق، فليس من الإنصاف أن يعير المرء به إذا وقع منه، لا سيما إن كان أهلا للنظر، ولو أراد أحد أن لا يخطىء فى شىء من العلم، فينبغى له أن يموت وعلمه فو صدره، فليس إلى العصمة من الخطأ سبيل إلا بتفضل رب العالمين على عبده.
والخطأ فى الفروع أكثر من أن ينضبط، ولا يسلمُ العالم منه، فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو العالمُُُُ، ومن غلب خطؤه صوابه فهو جاهلٌ وهذا ميزا نٌ عادلٌ، ويرحمُ الله ابن القيمِّ إِذ قال فى (إِعلام الموقعين) (3/ 283): ((ومن له علم بالشرع والواقع، يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذى له فى الإسلام قدمٌ صالحٌ، وآثار حسنةٌ، وهومن الإسلام وأهله بمكانٍ، قد تكون
منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامتُهُ فى قلوب المسلمين)). ا هـ.
وقال الذهبى رحمه الله فى ترجمة ((محمد بن نصر المروزى)) من ((سير النبلاء)) (14/ 40): " ولو أنا كُلَّمَا أخطأ إمام فى اجتهاده فى آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدَّعْنَاه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادى الخلْق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة " ا هـ.
¥