يا لَهْفَ نفسيْ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ = على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ
أولاً: الشاعر القائل هو محارب بن دثار الذهلي السدوسي الشيباني، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة، كان قاضياً شاعراً، من أقواله: لما أكرهت على القضاء بكيت وبكى عيالي، فلما عزلت عن القضاء بكيتُ وبكى عيالي.
وقد رأيتُ ياقوت الحموي ينسب البيتين الأولين للفرزدق، حيث قال: (وحدث أبو بكر بن عياش قال: الفرزدق بالكوفة ينعي عمر بن عبد العزيز، - رضي الله عنه -، فقال: .. ) ثم أورد البيتين. ونفسي تميل لنسبتها لمحارب لعدم وجودها في ديوان الفرزدق، واختلاف أسلوبها عن أسلوب الفرزدق والله أعلم.
ثانياً: هل سمعتم شاعراً سبقه إلى هذا المعنى، وهو اغتيال الحفر والقبور للنجوم؟
أنا كتبتُ هذا بعد قراءتي للأبيات مباشرة، ولم أرجع إلى كثير من الأبيات التي تناولت هذا الموضوع، وهو تشبيه الميت بالنجم، وكيف غار في القبر. وقد سمعتُ من الشعراء مَن شبَّه الميتَ بالجبل العظيم، وبالنجم الذي غار في القبر، وسمعتُ مَنْ تَعجَّبَ كيف اتسع القبرُ على ضيقه للميت على جلالته وفضله وجوده.
لكن لم أقرأ لمن فَطِنَ للمعنى الذي ذكره مُحاربُ بن دثار، وهو اتهام القبور باغتيال النجوم! ياله من معنى مطربٍ لشاعر قاضٍ.
ومن تلك الأبيات التي أتذكرها الآن قول المتنبي وإن كان متأخراً عن محارب بسنين يرثي أحدهم:
ما كُنتُ أَحسَبُ قَبلَ دَفنِكَ في الثَرى = أَنَّ الكَواكِبَ في التُرابِ تَغورُ
والبيت بديعٌ، والقصيدة التي منها البيت من روائع مراثي المتنبي، لكن معنى مُحارب بن دثار عندي أكثر تَميزاً وإبداعاً.
ثالثاً: أن الشاعر ليس الوحيد الذي يشعر بهذا الشعور في فقد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ولكن معه نفر كثير يَجِدُ مِن أَلَمِ فَقدِ الخليفة الصالح ما يَجدهُ، (ولهف الواجدين معي).
رابعاً:تأملوا تسميته للقبور بالحفر، وكأني بالشاعر يرمي من وراء تسميته للقبور بالحفر التهوين من شأنها وأنها رغم ذلك استطاعت احتواء هذه النجوم. ثم تأملوا وصفه لدفن الميت في القبر بالاغتيال، فكأن هذه القبور قد اغتالت هؤلاء الموتى، والاغتيال له معاني.
خامساً: من يقرأ في دواوين الشعراء يجد المديح غالباً عليها، وفي غالبه مديح مبالغ فيه في حق من لا يستحق، ولكن في هذه المرثية التي قالها محارب رحمه الله في حق الخليفة عمر بن عبدالعزيز تجد الصدق في كل عبارة منها، وأنها قيلت فيمن يستحقها تماماً رضي الله عنه وغفر له، وجمعنا به في جنات النعيم، فهو والله ما علمنا من الخلفاء الكبار الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالخير والعدل من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقد أجاد محارب عندما أشار إلى قبر قدوات عمر بن عبدالعزيز الذين سار على هديهم وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر بقوله:
ثلاثةٌ ما رأَتْ عَينٌ لهم شَبهاً = يَضمُّ أَعْظُمَهُمْ في المسجدِ المَدَرُ
المصدر الذي نقلتُ منه الأبيات: ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي ص 1
وإلى البيت السابع إن شاء الله
الجمعة 17/ 11/1427هـ
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[08 - 12 - 2006, 05:50 م]ـ
عودًا حميدًا يا دكتور.
ـ[أحمد بن يحيى]ــــــــ[08 - 12 - 2006, 07:31 م]ـ
وأخيرا
عادت الحياة إلى منتدى الأدب العربي
بأمثال الناقد الرئيس: ابن هشام
كم أنا مغتبط:)
إلى الأمام يابن هشام
موضوعك أكثر من رائع
مدهش
وطريف
ولطيف
مع خالص تحياتي
ـ[أبو طارق]ــــــــ[08 - 12 - 2006, 10:10 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بوركت ابن هشام على جميل لطائفك
لَهْفَ نفسيْ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ ** على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ
رحم الله من غيبتهم الحفر , وجمعنا بهم في دار كرامته
بوركت ابن هشام
ـ[ابن هشام]ــــــــ[08 - 12 - 2006, 11:08 م]ـ
أخي خالد الشبل: حياك الله وبياك، وقد اشتقنا للقائكم أبا عبدالله، فعسى أن نراك قريباً إذا مررتم بالديار، وأرجو أن تكونوا بخير وعافية.
أخي الكريم أحمد بن يحيى: أحسن الله إليك لحسن ظنك بأخيك، والرائع هو تقديرك الكريم للأدب العربي اللباب، وليتنا نحسن تفهمه وحفظه وعرضه على الوجه اللائق به في كل محفل نصل إليه، حتى نحبب الجيل فيه، فهو يقربنا من القرآن الكريم وبلاغته ولغته البديعة.
أخي الكريم أبا طارق: مرحباً بك وبحضورك الكريم، وقد اسعدني تعقيبك.
ـ[معالي]ــــــــ[10 - 12 - 2006, 01:52 ص]ـ
أحقا عاد شيخ الأدب؟!
عفا الله عنكم يا دكتور!
اغتبطتُ -علم الله- بعودتكم، وبعودة الحياة إلى هذا الموضوع الأثير، فرحبتُ قبل أن أقرأ ما نظّمتم من الدرر، وما دفع هذا بمُتاح!
جزاكم الله خير الجزاء، ورفع قدركم.
ـ[ابن هشام]ــــــــ[12 - 12 - 2006, 01:23 م]ـ
حياكم الله أختي الكريمة وبارك فيك وفي أدبك.
-
كلما نظرتُ في كتب الأدب ودواوينه، اتسعت أمام ناظري مساحة عمل الأديب الجاد رواية ودراية، ومدى المسؤولية الملقاة على عاتق كل متعلق من أدب العربية بسبب لتقريبه للناس، وتحبيبه لهم.
فليت أحد الإخوة الأدباء يطرح موضوعاً مستقلاً في كيفية تقريب الأدب للناس، وما هي أدوات هذا التقريب، كالأشرطة المسجلة مثلاً كأشرطة من القائل لابن خميس، وأشرطة قول على قول لحسن بن سعيد الكرمي، وهل هناك مجال لإقامة دورات أدبية في قراءة كتب الأدب الكبار كأمالي القالي وبهجة المجالس ودواوين الشعراء الكبار كالأعشى وزهير والمتنبي وأبي تمام وأمثالهم.
هذه أفكار متناثرة أطرحها على علاتها، حتى يستثمرها أديب أريب منكم فيتبناها ويطرحها في هيئة متكاملة ينتفع بها الجميع.
ربِّ وفقني فلا أَعدِلَ عَنْ= سَنَنِ الساعينَ في خير سَنَنْ
¥