وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ ****كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
ولا أدعي أني بلغت ما بلغتموه في مضمار الأدب:
وابن اللبون إذا ما لُزّ في قَرَن ***** لم يستطع صولة البُزل القناعيس
فقد شغلني النحو والتصريف فنأيت بعض الشيء عن ظل الأدب الوريف.
أعود للأبيات فأقول: لم أجد في البيت الأول وجها لقوله:
إذا كان إخوان الرجال حرارةً
فتشبيه الإخوان بالحرارة،أو جعلهم كأنهم مخلوقون من الحرارة _ كقول الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار_ أمر غيرمستساغ في الذوق إذ لا يتصور مثل هذا المعنى، فالإخوان قد تشوب أخلاقهم بعض الشدة والحرارة ولكن لا يبلغ بهم أن يكونوا مثل الحرارة أ كأنهم مخلوقون من الحرارة، والأشبه عندي أن يكون في البيت تحريف وقد يكون صوابه:
إذا شان إخوانَ الرجال حرارةٌ .... أو:
إذا عاب إخوانَ الرجال حرارةٌ ... هذا عن الشطر الأول.
أما عن الشطر الثاني وهو قوله:
فأنت الحلال الحلو، والبارد العذبُ
فلا وجه في رأيي لكلمة (الحلال) وإنما هو الزلال، لتصير كل الأوصاف جارية على الماء أي أنت الماء الزلال الحلو البارد العذب.
وفي موضع الشاهد الذي اختاره ابن هشام أعني قوله:
وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ ****كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
علق عليه ابن هشام فقال:
(ثم أعجبني جداً تشبيهه لهذه الهزة باهتزاز الغصن الرطب عندما يهزه البارح من الهواء. فتخيلت ذلك الغصن الرطب في تلك الشجرة المورقة الخضراء من الهواء العليل،)
وأقول لأستاذنا الفاضل: البارح هو الريح الحارة الشديدة في الصيف وأصل مادة (البرح) يدل على الشدة فإذا فسرنا البارح بالريح فهي الشديدة التي تحمل معها الغبار في الصيف وليست العليلة، ولا يتجه عندي أن يقال: اهتز الغصن تحت الهواء العليل، فالظرف (تحت) يدل على أن ثمة شيء فوق الغصن، لذلك أظن أن في البيت أيضا تحريفا وصوابه:
كما اهتز تحت الصادح الغصن الرطب
والصادح هو الطير المغرد كما ورد في أحد الأبيات التي أوردتها المستبدة:
فإني إذا هبت شمالا سألتها **** هل ازداد صُدّاحُ النُمَيْرة من قرب
فالصداح هو جمع صادح وهو المصوت من الطير كما شرحه الأعلم الشنتمري في شرح حماسة أبي تمام.
واهتزاز الغصن تحت الصادح يوحي بوجود النسيم العليل كما قال ابن الرومي عن الريح العليلة:
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه **** سّرا بها وتنادى الطير إعلانا
وُرق تغنى على خضر مهدلة **** تسمو بها وتشمّ الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب **** والغصن من هزه عطفيه نشوانا
أرجو أن يكون فيما قدمته بعض الفائدة لأهل الأدب بيد أني سررت كثيرا بوقوعي على شاهد نحوي عزيز جدا وهو ما ذكره ابن هشام من قول أبي العلاء الغنوي:
وماذا عليكمْ إِنْ أَطافَ بِأَرْضِكُمْ***** مُطالِبُ دَيْنٍ أَو نَفَتْهُ حُروبُ
فجملة (نفته حروب) صفة لموصوف محذوف أي: مطالب دين أو رجل نفته حروب
والنحويون يأبون أن تقوم جملة الصفة مقام الموصوف المحذوف في الاختيار ويشترطون لجواز ذلك أن يكون الموصوف بعض ما قبله من مجرور بـ (من) كقول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما **** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي: فتارة منهما أموت فيها، فحذف الموصوف تارة وأقيمت جملة (منهما أموت فيها) مقامه.
أو مجرور بفي كقول الراجز:
لو قلت ما في قومها لم تيثم ***** يفضلها في حسب وميثم
أي: لو قلتَ ما في قومها امرأة يفضلها لم تأثم، فحذف الموصوف وهو (امرأة) وأقيمت جملة (يفضلها في قومها) مقام الموصوف.
وفي بيتنا نابت جملة الصفة عن الموصوف دون أن يكون الموصوف بعض ما قبله من مجرور بمن أو مجرور بفي.
فمثل هذا الشاهد يعض عليه بالنواجذ فجزى الله ابن هشام عن أهل الأدب والنحو خيرا.
مع تحيات أخيكم الأغر.
وقفت على كنز هاهنا!
ـ[معالي]ــــــــ[02 - 10 - 2009, 07:41 ص]ـ
أما آن لأهل هذه الدار أن يعودوا إليها؟!
ـ[أحاول أن]ــــــــ[02 - 10 - 2009, 11:27 ص]ـ
بوركت قراءاتك أستاذ: الراجز، وسيكون النقاش ماتعا مع الدكتور ابن هشام كما كان مع الدكتور بهاء الدين لو عدت إليه في سابق الصفحات.
،،،
الأستاذات الكريمات:بل الصدى ومعالي
اعتاد الطلاب على الوقوف في الممر خارج الصف حتى يأتي معلموهم، لكنهم لا يبتعدون لأنهم على يقين أن دخولهم _ كنز _.
ـ[ابن هشام]ــــــــ[04 - 10 - 2009, 04:07 م]ـ
أخي الراجز: شكراً جزيلاً لتعقيبك، وأظنني قد أشرتُ إلى ما تفضلتم به في أحد التعقيبات على البيت الأول.
الأخوات معالي وأحاول أن بارك الله فيكما ونفعنا جميعاً بالعلم والأدب، وقد رصدت الكثير من شوارد الأبيات لأعلق عليها، ولكن أين الوقتُ؟ نسأل الله العون والتوفيق للجميع.
ـ[طالب عِلم]ــــــــ[04 - 10 - 2009, 05:05 م]ـ
أوّاااه .. ما هذا الموضوع؟!
أعتذر لكم .. لا أستطيع أن أعقب بشيء!
مَكانَتي لا تسمَحُ لي بالجلوسِ معَكُم!!!
سأرحَلُ مِن هُنا إلى موضوعٍ آخَرٍ لأساهِم في مواضيعٍ بمُستوى ثقافتي!
لماذا يا هذا؟!
لأنّ الموضوع ببساطة .. أكبَرُ مني بكثير!!
فقط سوف أجلِسُ قارئاً فرِحاً
للهِ درّك يا دكتور / ابن هشام على نبش شوارد الأبيات على مَرِّ العُصور.
وبالتأكيد سوف يأخذ الموضوعُ مِساحتَه مِنَ الإنتِشار، وكلّما انتشَر كلّما أفاد.
للموضوع إرادة قويّة -بفضلِ اللهِ ثمّ بالمُخلِصين- في أن يمتَدّ إلى ما شاء اللهُ لهُ أن يمتَد.
وشكراً للأستاذ / الراجز وكل مَن امتدَح أو انتقَد أو ساهَمَ في اطلاعِنا عمّا نحنُ -طلَبة العِلم- بحاجتِه.
اعذروا تطفّلي وهشاشة رَدّي وضحالة تعبيري.
وأعتذِر عن عدم اتخاذي الكِتابة على الأسطُرِ المُخصَّصةِ للكِتابة .. ذلك لأني سعيدٌ بما أُتابِع!
بارَكَ اللهُ بك دكتورَ الأدب وللمُشارِكينَ معَك
¥