تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما الرواية الأولى للطيب صالح «عرس الزين» موضوع بحثنا والمنشورة سنة 1962 فقد تحولت إلى فيلم سينمائي على يد المخرج الكويتي خالد الصديق، وتدور أحداثها في بلدة ما من السودان، حيث تسيطر الخرافة والإيمان بالمعجزات. فالزين الذي وصفه المؤلف أنه يشبه جلد المعزة الجاف أو العود اليابس هو الشخصية الأولى التي تدور في فلكها بقية الشخصيات. ويرى أهل القرية في شخصية الزين الكثير من التفكه، فهو عندما يضحك يستلقي على قفاه، يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ثم يضحك بصوت كنهيق الحمار. واشتهر الزين بنهمه في الأكل حتى أن الجميع يتحاشون الجلوس معه حين تأتي سفر الطعام في الأعراس والمناسبات. ويقال عن الزين انه حين ولد انفجر ضاحكا على عكس الأولاد الذين يولدون صارخين، كما يقال انه حين مرَّ على خرابة يشاع انها مسكونة سقطت جميع أسنانه عدا سنّين، في كل فك سن. وحين بلغ الزين مبلغ الرجال لم يكن له لحية أو شارب. ولأنه لهذه الصفات وغيرها يختلف عن الجميع فقد حيكت حوله حكايات كثيرة ويقبل منه الجميع بتصرفات لا يُسمح لغيره بفعلها، فهو مثلا يخالط نساء القرية عند البئر وسط البلد، يملأ أوعيتهن ويمازحن، يضاحكهن ويتمادى في مشاكستهن. أما حين يكون الزين في مجلس للرجال فإن المجلس يتحول إلى مجلس تفكه بوجوده.

واستطاع الزين في أحد هذه المجالس أن يحصل على وعد من محجوب أن يزوجه ابنته علوية، وطلب من الحاضرين أن يكونوا شهودا على ذلك. أما الحاضرون فإنهم يعلمون أن الزين سيسأم هذه الحكاية بعد شهر أو شهرين ليبدأ قصة حب ثانية، ولكنه خلال هذه الفترة لا يسأم من الترديد وبأعلى صوته بين الحين والآخر: «أنا مكتول في حوش محجوب.» وحين ينتهي الزين من عمله في الحقل ويرجع إلى البيت مزهوا، يرجع وسط زفة كبيرة من الصبيان والفتيات الصغار وحينها لا يتردد في الصياح من جديد: «أرروك .. يا ناس الغريق .. يا أهل الحلة .. أنا مكتول في حوش محجوب.» هنا يضحك الشبان بينما يتبرم الشيوخ قائلين: «الولد المطرطش دا يرغي يقول شنو؟»

هكذا استمر الحال مع الزين الذي يختار أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما، اللواتي تفتح جمالهن كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ. ولم يستغرب أهل البلد حين صاح الزين فجأة: «عوك يا أهل الحلة. يا ناس البلد. عزة بنت العمدة كاتلالها كتيل .. الزين مكتول في حوش العمدة.» غير أن العمدة، المهيب الوجه، ملأه الغضب لذلك، ولكنه حين رأى الناس ينظرون إلى الزين الواقف أمامهم كأنه جلد معزة جاف قبل أن ينفجروا في ضحك متصل، حينها قتل الغضب في صدره وخاطب الزين قائلا: «إن بقيت اشتغلت شديد الليلة نعرس لك عزة.» فتكرر ضحك الرجال مرة ثانية. واستغل العمدة ذلك بتكليف الزين بأعمال شاقة يعجز عنها الجن.

هكذا يتكرر صياح الزين بين فترة وأخرى على فتاة من أهل البلد لتجد تلك الفتاة طريقها إلى الزواج بسرعة من شخص يناسبها. ووصلت شهرة الزين إلى البدو وما إن صاح في حق بدوية من عرب القوز قائلا: «أنا مكتول في فريق القوز .. واكتلتني يا ناس.» حتى جاء كثيرون من أثرياء البلد وشبانها المرموقين ووجهائها يخطبونها من أبيها وتزوجها آخر الأمر ابن القاضي. وفطنت الأمهات في البلد إلى أهمية الزين كبوق يدعين به لبناتهن في مجتمع محافظ، تحجب فيه البنات عن الفتيان حتى أصبح الزين رسولا للحب، فأخذن يخطبن وده ويدعنه إلى بيوتهن ويقدمن له أشهى الطعام والشراب، تسلم عليه البنات اللواتي يستلطفن عبثه، وكل واحدة منهن تتمنى أن تقع في قلبه موقعا، فالفتاة التي يخرج اسمها على لسانه تضمن عريسا خلال شهر أو شهرين.

وروجت أم الزين لولدها أنه ولي من أولياء الله الصالحين، حتى أنها لا تبالي أين يقضي ليله أو نهاره، فحيثما يقام عرس تجد الزين هناك لا يحبسه برد ولا عاصفة ولا فيضان، يظهر فجأة صائحا: «عوك يا أهل العرس، يا ناس الرقيص، الزين جاكم.» وقوي ذلك الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين، وهو رجل صالح منقطع للعبادة حيث يقضي شطرا طويلا من حياته ضاربا في الصحراء ويتناقل الناس قصصا غريبة عنه. كما كان للزين صداقات من ذلك النوع مع آخرين يعتبرهم أهل البلد من الشواذ مثل عشمانة الطرشاء، وموسى العبد الأعرج، وبخيت المشوه، يصادقهم الزين ويحنو عليهم. وكثرت الأقاويل بحق

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير