تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عروقها الضاربة في الأرض، والى الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. احس انني لست ريشة في مهب الريح ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، له جذور، له هدف».

هذا الشعور بالطمأنينة وبأنه له اصول وجذور مستمدة من أصول وجذور مجتمعه وتاريخه يجعله يحس بتكامله الروحي والمادي مع مجتمعه وهو ما يدفعه للعطاء والبذل من اجل هذا المجتمع «أريد ان أعطي بسخاء وأريد ان يتفتق الحب من قلبي فينبع وبثمر». وبما انه كاتب فإن هذا العطاء والبذل قد تدفق في كتاباته الداعية الى احياء حضارة مجتمعه والى تحديث هذا المجتمع وفق معايير أشار اليها في رواياته وهي مساهمة نراها جادة وتستحق النظر فيها باهتمام واستصحابها في عملية تحديث هذا المجتمع.

إن رؤى الطيب صالح ومساهماته تحتويها رواياته التي قام بنشرها وهي دومة ود حامد، عرس الزين وموسم الهجرة الى الشمال، وبندر شاه ومريود والتي تدور احداثها جميعا في اطار اجواء القرية التي أشار اليها بأنها تقوم عند منحنى النيل، هذه القرية أخذ منها ابطاله، وفي بيئتها صاغ أوصافه وصوره وبث من خلالها رؤاه وأفكاره.

والطيب صالح يعتبر أحد أدباء وكتاب كثيرين في دول العالم الثالث والذين جعلوا من القرية مسرحا لأحداث أعمالهم الادبية. إذ نجد كثيرا منهم قد ذهبوا الى هذا المنحى، وفي تقديرنا ان هذا يعود الى البعد الانساني والاجتماعي الذي شغلته القرية في الوجدان البشري، إذ تعتبر القرية هي الوحدة أو النواة الأولى التي تشكلت فيها المجتمعات الأولية وتبلورت فيها قيم ومفاهيم الانسان في الحياة وعلاقاته الاجتماعية وأخذ الانسان يبني فيها حضارته ويحقق تطوره، وظلت تحتفظ في الوجدان الانساني بقيمتها الأولى التي تحتوي على الجواهر الأصلية من القيم والموروثات التي صاغها الانسان بفطرة سليمة وعقل صاف نقي. وربما يفسر هذا الجانب الأمر الذي حدا بكثير من الكتاب الى اتخاذ القرية مسرحا لأحداث أعمالهم وجعلها رمزا للوطن بكامله عندما يعالجون قضايا تطوره أو عندما يشخصون مواطن الخلل فيه حينما تتجاذبه المحن والاخفاقات وتجتاحه عواصف الظلم والاضطهاد. وهذا المنحى قد جعل القرية لاتمثل مكانا بعينه وإنما تمثل موقفا فكريا أو حالة فكرية كما يقول بعض النقاد أي «تصبح صورة حية لانسان البلد الذي يكتب عنه الكاتب في همومه ونشاطاته، نجاحه وخذلاته، مآسيه ومسراته، قهره وانتصاره، انحسار ارادته، وتصديه لما يعوق ارادته، في الخطر على وجوده، وتحديه لذلك الخطر» كما عبر سامي وانعام الجندي في مقدمة ترجمتهما لرواية الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة». وفي تقديرنا ان الطيب صالح في تناوله للقرية قد عالج كل هذا بل عمد الى ان يضع أمام الانسان السوداني أولا والعالم ثانيا ملامح وخصائص الشخصية والذاتية السودانية كشاهد على أصالة مجتمعه من جهة وكتراث للأجيال السودانية المتعاقبة تستمد منه عبقريتها واصالتها في تعاملها الساعي لبناء مجتمعها واحياء حضارتها من الجهة الأخرى. والطيب صالح يرى ان على الاديب ان يبدأ من عالمه الصغير .. واذا نجح الاديب في مخاطبة عالمه الصغير فإنه يكون بمثابة من نجح في مخاطبة العالم بأكمله.


الروائي العربي الكبير الطيب صالح لا ينتمي إلى السودان وحده, بل إلى أقطار عربية عدة عاش فيها فترات مختلفة, أو ارتبط اسمه بها بصورة من الصور, منها لبنان الذي بزغ نجمه فيه لأول مرة إذ صدرت له في بيروت, روايته الأولى (موسم الهجرة إلى الشمال) في طبعتين: الأولى عام 1966 والثانية عام 1972 (دار العودة, بيروت). كما صدرت له لاحقاً, في بيروت أيضا, أكثر أعماله ومنها (دومة ود حامد) و (عرس الزين) و (بندر شاه).

وقد احتفلت العاصمة اللبنانية به بكتاب عن الطيب صالح ضم دراسات نقدية حرره د. حسن أبشر الطيب.
وبهذه المناسبة أقامت الدار الناشرة (دار رياض نجيب الريس) حفلا حضره الطيب صالح وقّع خلاله هذا الكتاب ويتألف من قسمين. في القسم الأول وعنوانه (شهادات: تقاربات شخصانية) , يكتب محمد بن عيسى وإبراهيم الصلحي وصلاح أحمد محمد صالح وعبدالرحيم الرفاعي وسيد أحمد الحردلو وبلند الحيدري ومحمد الحسن أحمد وعثمان وقيع الله وعبدالمنعم سليم وعبدالواحد عبدالله يوسف.

وفي القسم الثاني نجد حوارا مع الطيب صالح أجراه البشير القمري, ولمحات من السيرة الذاتية للطيب صالح. يلي ذلك دراسات نقدية لكل من أحمد عبدالمعطي حجازي ورجاء النقاش وروجر ألن ومحمد خير عثمان وطارق الطيب ومحمد صالح خضروعبدالوهاب موسى ومحمد المهدي بشري ومحمد المكي ابراهيم وحسن أبشر الطيب. يلي ذلك نصوص مختارة من تأليف الطيب صالح.

تأسيساً على ذلك, يجمع الكتاب بين دفتيه أجناسا متنوعة من التأليف, هي الشهادة والدراسة والحوار والسيرة, في محاولة للإحاطة بالروائي العربي الكبير من جهة, ومن جهة ثانية التعبير عن رغبة صادقة للاحتفاء به مبدعا ثلاثي الأبعاد مزج بين البراعة والوعي والحب في صبوة نادرة.

يصف حجازي (موسم الهجرة إلى الشمال) بـ (العمل المكتمل) , وبـ (الرواية المزدحمة بالمعاني والدلالات والمقابلات) , وبـ (الحلقة في سلسلة) تدور مسألة الشرق والغرب التي نظر إليها المؤلف من زاويته الخاصة فوجدها مسألة الجنوب والشمال). ويرى حجازي أن موسم الهجرة إلى الشمال تجسيد لتلك العلاقة المتوترة بيننا وبين الغرب.

ويرى روجر ألن أن الطيب صالح نجح في أن تكون روايته (عرس الزين) بمنزلة تفسير وتأويل لعواقب الصراع بين التراث وقوى التغيير التي هي ملمح جوهري وثابت للوجود الإنساني, والتي تصيب بإلحاح مجتمعات بذاتها كتلك التي تشبه مجتمع الطيب صالح: السودان.

ويمتلئ الكتاب بالحديث عن إنجازات الطيب صالح وسيرته, حتى يغدو وكأنه يكشف عن مفاتيح شخصية الطيب صالح الفنية والروائية والذاتية.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير