تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في "مريود" ينتقل الطيب صالح من معتقدات جمهرة العامة في بساطتها التي تبرزها حكاياته الأولى (دومة ود حامد) و (عرس الزين) إلى محاولة التنقيب عن الأصول الأولى لهذه المعتقدات، راجعا في الطريق ذاته الذي سلكته الصوفية عبر القرون، حين انتقلت من ممارسات لقلة من الصفوة إلى نشاط ينتظم جمهور العامة. يريد بذلك أن يصل إلى أن الدعوة إلى الإصلاح الديني، كما الدعوة إلى التطور المادي، لا تكونان بمحاولة اجتثاث هذه المعتقدات قسراً. أو انتزاع الناس من أحلامهم وتراثهم، وإنما عن طريق فهم هذه المشاعر، والوصول إلى ينابيعها الروحية الأولى، ومن ثم تنقية ما شابها من الخرافة والدجل.

النقاء الديني ممكن. وكذلك التطور الحضاري ممكن، دون التضحية بالحلم الذي يمنح الحياة القيمة والمعنى. في (عرس الزين) فشل الإمام في استمالة الناس، واعتبروه مجرد رجل عاطل لا هم له غير تخويفهم وزجرهم وتذكيرهم بالموت، كما فشل الواعظ في "دومة ود حامد" في معايشة أهل القرية، مدركا في نهاية المطاف أن هؤلاء القوم لا حاجة لهم به أو بواعظ غيره. وفشل رجال الحكومة برغم التهديد والوعيد والترغيب في إزالة الدومة. فشلوا جميعا لأنهم عجزوا عن فهم هذه الحقيقة.

في (دومة ود حامد) يسأل الراوي ساكن القرية: متى تقيمون طلمبة الماء، والمشروع الزراعي، ومحطة الباخرة؟ ويجيب يروي: حين يتخرج ابن ابني من المدرسة، ويكثر بيننا الفتيان الغرباء الروح. ويسأله مرة أخرى: وهل تظن أن الدومة ستقطع يوما؟ فيجيب: لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثمة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعا أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء: يتسع للدومة، والضريلح، ومكنة الماء، ومحطة الباخرة.


أدب الطيب صالح ورؤى الاحياء والتحديث الحضاري

اتجه الطيب صالح بكل طاقاته وملكاته الادبية للكشف عن أصول الحياة السودانية وعن ثقافة الانسان السوداني وجذورها الضاربة بعمق في مجتمعه. والكشف عن ان هذا المجتمع له فلسفته في الحياة وله قيمه وتقاليده ونظمه الاجتماعية وتاريخه الذي يعتد به، وان هذه الاصول هي التي صاغت وكونت نسيج الحياة الاجتماعية للانسان السوداني وحفظت له كيانه وتماسكه رغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المجتمع في الفترة الاستعمارية. ومن هنا فلا مناص من التأكيد على ان هذه الاصول واستصحابها في عمليات بناء المجتمع الحديث. ودون شك ان الطيب صالح يرى ان من واجبه ككاتب ان ينبه المجتمع الى مناطق القوة في بنائه التقليدي بحيث لا ينساق وراء دعاوى التحديث والتطور الحضاري دون تبصر أو رؤيا نافذة وراء الاشياء التي تبدو للعيان. وان من مصلحة المجتمع ان يعد الأساس السليم للتحديث قبل البدء في عملية الانطلاق. وان هذا الانطلاق لابد ان يمر عبر قراءة مستبصرة لتاريخ المجتمع ونظمه التقليدية وفلسفته في الحياة وتجاربه القائمة على واقعه وخبراته وقيمه التي تكونت عبر ماضية الطويل.

وهذا ما نجد الطيب صالح يعبر عنه في ثنايا رواياته إذ يقول: «إنني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي» وقوله كذلك «وأذهب الى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاما، قبل خمسين عاما، بل ثمانين عاما فيقوى احساسي بالأمن». والاشارة هنا الى حكايات الماضي والجد واحاديثه الى الحفيد فيه اشارة الى التاريخ. الى الماضي الزاخر بالاحداث، والى تواصل الحياة وترابط حلقاتها وتواصل اجيالها، وترمي الى تلك العلاقة الازلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وان الحاضر والمستقبل لا يستقيمان الا اذا استندا على دعائم الماضي، فالحاضر سيقوم على فراغ إن لم يكن امتدادا للماضي، والمستقبل جنين في بطن الحاضر إن صح صح معه الجنين وان هزل هزل الوليد كما يقول جمال محمد احمد في كتابه «مطالعات في الشئون الافريقية» وبما ان مجتمع الطيب صالح له ذلك الماضي الضارب في عمق التاريخ وله أصالته وجذوره الحضارية فإن في هذا ما يقوي احساسه بالأمن والاطمئنان على مستقبل الحياة في بلاده. وهو ما عبر عنه بقوله في روايته موسم الهجرة الى الشمال «ونظرت خلال النافذة الى النخلة في فناء دارنا، فعلمت ان الحياة لاتزال بخير، انظر الى جذعها القوي المعتدل والى
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير