تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال -جل وعلا-: جَعَلَا لَهُ "جعلا " يعني آدم وحواء، "له" يعني لله -جل وعلا- شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وكلمة "شركاء " جمع الشريك، والشريك في اللغة: هو المقصود بهذه الآية، يعني هذه الآية فيها لفظة "شركاء"، والمقصود بها معنى الشركة في اللغة، ومعنى الشركة في اللغة: اشتراك اثنين في شيء، فجعلا لله -جل وعلا- شركاء فيما آتاهما، حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث، والحارث هو إبليس.

ذلك أن إبليس -كما سمعتم بالقصة- هو الذي قال: إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن ولأفعلن، ولأجعلن له قرني أيّل، وهو ذكر الوعل، وفي هذا تهديد بأن يشق بطن الأم فتموت، ويموت أيضا الولد.

فلما رأت حواء ذلك، وأنها قد مات لها عدة بطون، فأطاعت الشيطان في ذلك، فصارت الشركة شركة في الطاعة، وآدم وحواء -عليهما السلام- قد أطاعا الشيطان من قبل حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله -جل وعلا- عنها.

فوقوع طاعة الشيطان من آدم وحواء -عليهما السلام- وقوع ذلك منهما لم يكن هذه هي أول مرة، وإنما وقع العصيان قبل ذلك، كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خدعهما مرتين وهذا هو المعروف عند السلف، فيكون إذن قوله: شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا من جهة التشريك في الطاعة.

ومعلوم أن كل عاص مطيع للشيطان، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثَم نوع تشريك حصل في الطاعة؛ لأنه إما أن يطيع هواه، وإما أن يطيع الشيطان.

ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين: إنه ما من معصية يعصي بها العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان، أو طاعة الهوى، وذلك نوع تشريك، وهذا هو الذي حصل من آدم وحواء - عليهما السلام -، فهذا لا يقتضي نقصا في مقامهما، ولا يقتضي شركا بالله -جل وعلا-، وإنما هو نوع تشريك في الطاعة.

والمعاصي جائزة -يعني المعاصي الصغار- جائزة على الأنبياء كما هو معلوم عند أهل العلم، فإن آدم نبي مكلم، وصغار الذنوب جائزة على الأنبياء، ولا تقدح في كمالهم؛ لأنهم لا يستقيمون عليها، بل يسرعون وينيبون إلى الله -جل وعلا-، ويكون حالهم بعدما وقع منهم ذاك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك؛ لأنه يكون لهم مقامات إيمانية، واعتراف في العبودية أعظم، وخضوع بين يدي الله -جل وعلا- أعظم، ومعرفة بتحقيق ما يجب لله -جل وعلا- وما يستحب أعظم.

إذن هذه القصة -كما ذكرنا- صحيحة، وآثار السلف الكثيرة تدل عليها، والسياق أيضا -سياق الآيات في آخر سورة الأعراف- يدل عليها.

والإشكال الذي أورده بعض أهل التفسير من المتأخرين في أن آدم وحواء جعلا لله شركاء، هذا نص الآية، ولا يمنع بأن التشريك هنا -تشريك كما قلنا فيما يدل عليه المعنى اللغوي- ليس شركا أصغر، وليس -وحاشاهم- شركا أعظم من ذلك، وإنما هو تشريك في الطاعة، كما قال -جل وعلا-: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وكما قال أيضا في آية أخرى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ.

فكل من جعل هواه متَّبعا فقد جعله مطاعا، وهذا نوع تأليه، لكن لا يقال: عبد غير الله، أو ألَّه غير الله، أو أشرك بالله -جل وعلا-. لكن هو نوع تشريك، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك، إذ الواجب على العبد أن يعظم الله -جل وعلا-، وألا يطيع إلا أمره -جل وعلا- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

فإذن ظاهر أن هذه القصة لا تقتضي نقصا في مقام آدم -عليه السلام-، ولا في مقام حواء، بل هو ذنب من الذنوب تابا منه كما حصل لهما أول مرة في الأكل من الشجرة، بل إن أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله -جل وعلا- أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا، وهو تسمية الولد عبد الحارث.

وذلك أن الخطاب الأول كان من الله -جل وعلا- لآدم مباشرة، خاطبه الله -جل وعلا- ونهاه عن أكل هذه الشجرة، وهذا خطاب متوجه إلى آدم بنفسه، وأما هذه التسمية فإنه لم ينه عنها مباشرة، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله -جل وعلا-، فذاك المقام زاد على هذا المقام من جهة خطاب الله -جل وعلا- المباشر لآدم، وهذا أمر معروف عند أهل العلم.

ولهذا فسر قتادة كلمة "شركاء" بقوله - كما نقل الشيخ - حيث قال: وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وهذا هو الصحيح في تفسير الآية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير