فالصلاة المأمور بها هنا هي الدعاء، بدلالة قول عبد الله بن أبي أوفى كما في صحيح البخاري (ج: 4 ص: 1529): قال: ((… ثم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم. فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى)).
فدلَّ هذا الحديث أنَّ صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن جاء بصدقته ليست صلاة مخصوصة، بل هي مجرد الدعاء لهم، ولو كانت صلاة مخصوصة كصلاة الجنائز أو غيرها لبيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله.
وفِعْلُه هنا ـ وهو نوع من التفسير النبوي، وهو ما يسمَّى بتأوُّل القرآن ـ دلَّ على أنَّ المراد المعنى اللغوي.
وهذا الموضوع ـ وهو المصطلح الشرعي ـ من الموضوعات المهمة، وقد تطرَّق إليه علماء العقائد وعلماء أصول الفقه، لكن الملاحظ أنَّ كثيرًا منهم قد يحيد عن المعنى الشرعي في بعض الأبواب، ويدَّعي بقاءها على المعنى اللغوي؛ لشبهة وقعت له في ذلك الباب، ومن أوضح الأمثلة في ذلك قصر المرجئة مسمَّى الإيمان في الشرع على التصديق دون دخول الأعمال في مسمَّاه، وهذا مخالف للشرع الذي بين دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وكذا فهم السلف ذلك.
ولهذا لو قال قائلٌ: إنَّ المراد بالصلاة: الدعاء فقط، بناءً على المعنى اللغوي، كما جعل ذلك مسمى الإيمان على المعنى اللغوي عند الشارع؛ لأنَكَر عليه ذلك، واحتجَّ عليه بورود الشرع بمعنى الصلاة، فإذا كان ذلك كذلك عنده، فإنه يُحتجُّ عليه بورود مسمى الإيمان على العمل، والنصِّ على دخولها فيه.
وهذا الموضوع يطول الحديث عنه، وهو يؤخذ من كتب الاعتقاد، ولعل الإشارة هنا كافية في الدلالة على المقصود.
هذا، وقد كُتِبَ في المعنى الشرعي كتابات كثيرة، وأشير هنا إلى دراسة معاصرة جيدة في هذا الباب، وهي (التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن) تأليف الأستاذ عودة خليل أبو عودة.
ولعلك تلاحظ من خلال الحديث السابق أن مستوى تفسير اللفظ بالمصطلح الشرعي أخصُّ من المستويات السابقة، فكلُّ لفظة لها مصطلح شرعي متميز لها أصل واستعمال في لغة العرب، ولا يلزم من كل لفظٍ في لغة العرب أن يكون له مصطلح شرعي خاصٌّ.
ومن باب الفائدة، فإنَّ بعض الباحثين يخلط بين المعنى الاصطلاحي في العلوم والمعنى الشرعي، فيقول مثلاً: تعريف المعجزة شرعًا.
وهذا خطأ؛ لأنَّ هذا اللفظ ليس من مصطلحات الشارع ولا استخدمها، والصواب أن يقال: تعريف المعجزة اصطلاحًا؛ أي: فيما اصطلح عليه العلماء الذين بحثوا المعجزة.
والمراد أنه لا يُنسب إلى اصطلاح الشرع إلا ما نصَّ عليه أو كان موجودًا فيه على معنى مستقلٍّ عن المعنى اللغوي.
أما اصطلاحات العلماء في العلوم ـ وإن كانت في بعض العلوم الشرعية التي لها مساس بالأصلين: الكتاب والسنة ـ فإنها لا يصلح أن يُطلق عليه مسمى المصطلح الشرعي؛ لأنَّ ذلك من مصطلح العالم وليس من مصطلح الشارع.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[27 Nov 2003, 06:25 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيراً أخي أبا عبدالملك على هذا الموضوع النفيس، وأرجو مواصلة طرقه حتى يثبت في أذهان القراء والدارسين من أمثالي، فهو من الأصول المحررة التي لا يستغني عنها طالب العلم، ولي مع ما تفضلت به وقفات متممة:
الوقفة الأولى: ما ذكرتموه حول القسم الأول وهو (أن تأتي اللفظة على أصلها الاشتقاقي) قد كتب فيه الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل كتاباً بعنوان (أصول معاني ألفاظ القرآن الكريم) وهي رسالة دكتوراه بكلية اللغة العربية بالقاهرة – جامعة الأزهر، وقد اطلعت عليها ولا أدري هل طبعت أم لا.
وعرضتم لذكر كتاب العلامة أحمد بن فارس الرازي (مقاييس اللغة) وأنه الكتاب الوحيد الذي لم يسبق ولم يلحق في بابه، وهو يعتني بإرجاع المفردات إلى أصولها الاشتقاقية، وهذ الكتاب مظلوم بين طلاب العلم، فمع كثرة رجوع طلاب العلم إليه في بحوثهم، إلا أنه لم يلق في كليات اللغة العربية العناية التي يستحق مثل هذا الكتاب النفيس، وحقه أن يحفظ ويتدارس بين طلاب العلم، وهو أولى عندي بالحفظ من القاموس مع جلالة القاموس، وقد كنت درست التفسير عند ابن فارس رحمه الله، وكان هذا الكتاب عمدتي في البحث فلعلي أعود إليه إن شاء الله.
¥