الوقفة الثالثة: سمعت أحدهم يسأل أحد الشيوخ الكبار عن مدى الحاجة إلى تفسير جديد للقرآن الكريم، فأجابه الشيخ بأن الحاجة مستمرة لتفسير القرآن الكريم لكل جيل، لما يستجد من المعاني في حياة الناس. وقلت في حينها: إذا كانت المفردات التي في القرآن الكريم لا تخرج عن البعد الحقيقي أو المجازي فقد تكفلت كتب المعاجم والتفسير ببيان هذه المعاني، فما الداعي لمثل هذه التفاسير؟
ثم وجدت مقالة طويلة للدكتور العلامة عبدالصبور شاهين وفقه الله بعنوان: (نظرية جديدة في دلالة الكلمة القرآنية). منشورة في كتاب (بحوث في اللغة والأدب) الذي أعدته الدكتورة سهام الفريح من جامعة الكويت عام 1408هـ.
فوجدت في هذا البحث جانباً شارحاً لما لم أفهمه من جواب الشيخ ذاك.
فقد وضح في مقالته أن ألفاظ القرآن الكريم تتجاوز هذين البعدين الذين ظننتهما، فلو كان القرآن الكريم دار في دلالته بين هذين البعدين: الحقيقة والمجاز – لما كان هنالك مشكلة في فهمه، ولاستطاعت مجموعة التفاسير التي أنجزت أن تفي ببيان معانيه، دون أن يشعر كل جيل أنه بحاجة إلى تفسير جديد يوائم حاجاته إلى فهم القرآن في ضوء المتغيرات العصرية.
إن تفسير النصوص الأدبية كالشعر الجاهلي مثلاً يتم عبر الأجيال بطريقة واحدة، عن طريق دراسة دلالات الألفاظ، ومتابعة المعنى التركيبي، الذي يتألف من معاني المفردات في سياقاتها، وتعتبر المعاجم القديمة مصادر لمعرفة المعاني القديمة وليس من المنطق أن يفسر بيت قديم من الشعر بحمل ألفاظه على معانٍ محدثة، والعكس صحيح.
أما شأن القرآن الكريم فعجيب، إذ هو يخرج تماماً عن حدود هذه القاعدة، بحيث تتسع ألفاظه للمعاني المحدثة في حالات كثيرة، ولا سيما الألفاظ الأصول التي تتصل بمعاني الصفات الإلهية، والغيب، والعلم الإلهي، والموجودات الكونية التي أثبت القرآن وجودها وغير ذلك.
ومن الأمثلة على هذه الألفاظ صفات الله كالرحمن والرحيم واللك والقدوس والسلام إلى آخر صفاته الحسنى سبحانه وتعالى، ومنها كذلك ألفاظ الجن والسماء والعرش والكرسي واللوح والقلم، والجنة والنار، والحساب، والكتاب، والصراط، والبعث، والقيامة ... الخ.
فكل هذه الألفاظ العربية ذات مدلول لغوي محدد، ولكن مدلولها القرآني غير محدد، أي أننا نعرف مبتداها، ولكنا لا نعرف منتهاها.
وقد ضرب لذلك أمثلة من المفردات أقتصر منها على مثال واحد
* لفظة التراب، وردت في قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب).
والتراب إذا أضيف إليه الماء صار طيناً، وقد عبر القرآن عن هذه الحالات الثلاث في قوله: (وهو الذي خلق من الماء بشراً)، (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين).
والتراب هو مادة الأرض، وقد اعتبر في نظر مؤلفي المعاجم معروفاً، فلم يعرِّفوه. ولكن القرآن اهتم بالربط بينه وبين الإنسان، منشأً ومصيراً، فما حقيقة هذا المنشأ؟
يقرر التحليل العلمي أن عناصر التراب تبلغ اثنين وعشرين عنصراً، هي: الأكسجين، والهيدروجين، والكربون، ومنها تتشكل المركبات العضوية من سكريات ودهنيات وبروتينات وفيتامينات وهرمونات. كذلك نجد من مكوناته الكلور والكبريت ... والكروم، والبور.
هذه هي حقيقة التراب في ذاته، ودلالته العلمية التي نذكرها عندما نريد تحديداً لماهيته، ولكن التراب المذكور في القرآن على أ، ه مادة خلق الإنسان يزيد عن ذلك عنصراً إلهياً لا يدخل في اختصاص المعامل والمختبرات، ولولا هذا العنصر الذي يعتبر أساس الإبداع ما تحول التراب إلى مادة حية.
وبين أيدينا تراب الأرض، وفي أيدينا وسائل العلم المتقدمة، ومع ذلك لا يمكن أن نصل إلى شيء من سر هذا التراب المتخلق، وبعبارة أخرى: إن للتراب القرآني مدلولاً أوسع من مدولو التراب الأرضي، وللغة سلوك متميز حين تخص العناصر المختلفة بأسماء تعين اختلافها، أما لغة القرآن فقد أبقت على الكلمة كما هي، مع ما طرأ على معناها من اتساع.
كذلك لفظة الماء فإن مدلول الماء العادي يختلف عن مدلول الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، وكلاهما ماء، وكذلك الطين، والصلصال، والحمأ المسنون، كانت قبل القرآن تعني شيئاً عادياً أو ضئيلاً، فصارت بالقرآن تعني الشيء الكثير اللا متناهي.
فإذا قيست دلالة هذه المفردات كما كانت في لسان العرب قديماً، بما صارت إليه في لغة القرآن الكريم أدركنا ما طرأ عليها في الاستعمال من رحابة واتساع، وأدركنا أيضاً أن المدلول يزداد اتساعاً مع تقدم البحث العلمي.
ولعله يتسير أن توضع هذه المقالة النفيسة بكاملها في الملتقى إن شاء الله.
هذه بعض الخطرات أخي أبا عبدالملك التي سنحت تعليقاً على بحثكم النفيس حول المفردة القرآنية وفقكم الله ونفع بعلمكم.
ـ[الإداوة]ــــــــ[02 Dec 2003, 08:03 ص]ـ
يرفع رفع الله محرره .. في الدارين
¥