تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم بين الله لنا بعد ذلك منزلة الوالدين ووجوب الإحسان إليهما ـ وإن كانا كافرين جزاء وفاقاً لأيام الرعاية في الطفولة ـ بشرط عدم الاستجابة إلى مطالبهما وإن أجهدا نفسيهما ليحملا الابن على الإشراك بالله تعالى، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق على أن طاعة الوالدين تأتي بعد تحقيق طاعة الله تعالى.

لكن عدم الاستجابة لمطلبهما لا يلزم عنه ترك صحبتهما بالمعروف بالبر والإحسان والصلة ويصور الله لنا هذا الخط الفارق بين الحالتين في قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبها في الدنيا معروفاً}.

وفي هذا الأسلوب تقرير لمبدأ الطاعة بالمعروف لا لمطلق الطاعة العمياء، وفيه تعليم للأبناء الموازنة بين الأمور وترجيح المصلحة العليا منها.

3 ـ ثم وجه الأسلوب القرآني نظرنا بعد ذلك إلى التزام الصحبة الطيبة واتباع سبيل المؤمنين الذين رجعوا إلى الله تعالى بالتوبة والعمل الصالح قال الله تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} ولا يخفى أثر الصحبة الطيبة في شخصية الأبناء إذ الطبع يسرق من الطبع، والمرء على دين خليله، يقلد تصرفاته، ويسلك مسالكه.

وفي الأمر باتباع سبيل المؤمنين نهي وتحذير عن تقليد الكافرين والفاسقين وسلوك طريقتهم إذ هناك فرق بين الاتباع والتقليد، فالاتباع يكون على بصيرة ونور بدليل أن الله بصر المتبع سبيل الاتباع فقال الله تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي}.

أما التقليد فغالباً ما يكون أعمى على غير هدى وتبصر. والتقليد الأعمى لآبائية أو قومية أو جماعة .. هو من أخطر الإصابات العقلية التي تصيب الشخصية وتعطل آلية التفكير فيها، وهو ما يجب الانتباه إليه وتحذير الأبناء منه.

هذا وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه التوجيهات من قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه إلى قوله تعالى بما كنتم تعملون} هي ليست من وصية لقمان وإنما هي من الله تعالى أحكم الحاكمين جاءت لمناسبة لعلها لتكمل الصورة أمام الآباء في تربية أبنائهم.

4 ـ رأى لقمان أن السبيل الأوحد ليحافظ ابنه على تلك المواعظ ويعمل بها هو أن يغرس في نفسه مراقبة الله تعالى لتبقى هذه الرقابة الحية في ذاته حارساً لإيمانه ورقيباً على أعماله، توقظه عند الغفلة، وتحميه من الزلة.

ولكن كيف ربى لقمان في ابنه هذا الوازع الديني؟ لنستمع إلى لقمان وهو يعظ ابنه {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}.

ومن خلال هذا التمثيل الرائع وجه لقمان ابنه إلى أن الله مطلع عليك يراك ويعلم كل أحوالك وما يجرى منك من صغيرة أو كبيرة لا تخفى عليه خافية في السموات والأرض، فالله يعلم حبة الخردل الصغيرة ـ وهي من أصغر الحبوب ـ سواء كانت مخبوءة داخل صخرة أو في أيِّ موضع من السموات والأرض يعلم الله مكانها ويقدر على الإتيان بها.

وعن طريق هذا التمثيل البلاغي من خلال هذه الصورة المادية المحسوسة التي صورها الأب لابنه استطاع لقمان أن يغرس في ابنه الشعور برقابة الله تعالى ويربي في نفسه وازعاً قوياً يبقى الرقيب الدائم والواعظ المصاحب في ذاته.

فما أروع هذا الأسلوب التعليمي التربوي ـ في مخاطبة الوجدان ـ حيث استطاع لقمان الحكيم غرس المعاني عن طريق عرض المادي المحسوس، لينمي عند ابنه حسَّ الرقابة الذاتية.

5 ـ وإدراكاً من لقمان لأهمية الصلاة ومكانتها فقد وجه ابنه بتلطف إلى أداء الصلاة والمحافظة عليها فقال له: [يا بني أقم الصلاة] فالصلاة هي الرابطة بين العبد وربه يستمد منها قوة الإيمان ويتزود بها من التقوى والعمل الصالح.

وهذا من لقمان انتقال بابنه من أسلوب التحذير إلى أسلوب الربط .. وفي ربط الأبناء بأداء الصلاة مع الحضور والخشوع فيها إشباع لحظ الروح من الخواء الروحي الذي أصاب الجيل اليوم.

6 ـ ثم أمر لقمان ابنه أن يقوم بواجب النصح والدعوة إلى الله تعالى نحو أبناء مجتمعه عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ حصن الدين وسياجه ـ فقال له: [وأمر بالمعروف وانه عن المنكر] والغرض تعريف ابنه ببعض واجباته الدينية تجاه مجتمعه ليبني عنده الاتجاه الإيجابي ويعلمه تحمل المسؤولية والقيام بشأنها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير