المقصد الأول في القرآن الكريم هو أن الكتاب المجيد يريد منا معرفة الرب العظيم، وهذه المعرفة أساس كل خير وصلاح، وإذا عرف الإنسان ربه أطاع أوامره ورسله وأوليائه.
كم في القرآن من آيات تتحدث عن الطبيعة، بما فيها من إنسان وحيوان وجبال وأرض وسماء وأنهار وبحار؟ إنها آيات كثيرة جمة، وكلها تهدينا إلى ربنا وتعرّفنا بعظمة خالقها وخالقنا.
اقرأ آيات الطبيعة، وانظر كيف يذكرنا الله بذاته لنعرفها حق المعرفة.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ... وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) ... تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} (سورة: الفرقان).
ما عليك أيها المؤمن إلا أن تقرأ آيات الطبيعة المفصلة في كتاب ربك، وتنظر إليها ماثلة أمامك في الحياة، ومن ثم تلاحظ عظمة الله .. وها هنا تكمن المعرفة بالله التي تدفع إلى تحقيق أهداف القرآن.
وحتى تستقر بذرة المعرفة في قلوبنا وتنبت بسلام وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ينبغي أن نطهر ساحة قلوبنا ونزكي أرواحنا وننظفها من أدران الحياة وأوساخ الدنيا. وهذا هو المقصد الآخر الهام للقرآن، فهو يريد أن تكون قلوبنا زكيه نظيفة طاهرة لا وسخة تحتوي وتنطوي على النية الخبيثة.
ولا وسيلة نزكي بها نفوسنا أفضل من القرآن.
وإذا زكى القلب وطهر، ونمت فيه شجرة الفهم والمعرفة، يكون صاحب هذا القلب رشيداً في حياته، فينتهي عن المحرمات المحظورة، ويأتي بالأعمال الطيبة والأفعال الجميلة .. وهذا مقصد آخر من مقاصد القرآن، فلا تكفي المعرفة والعلم وزكاة القلب، بل لا بد وأن يكون ذلك مشفوعاً بالعمل الطيب ومتبوعاً بالفعل الحسن.
وإن الإنسان إذا كان عارفاً نقي القلب، فهو ليس بحاجة إلى أن يدعى للعمل الطيب، لأنه وبشكل طبيعي سيصدر منه كل ما هو طيب وحسن وجميل.
ونتساءل: كيف تحقق هذه المقاصد والأهداف على الصعيدين الشخصي والاجتماعي؟
هنالك طريقان لابد من سلوكهما لنتقرب من القرآن، ونتمكن من تحقيق أهدافه في أنفسنا ومجتمعنا.
الأول .. القرآن نفسه طريق سريع يوصلنا إلى أهداف القرآن، ولذا ينبغي أن تطرق آياته النافدة وبيناته المؤثرة أسماعنا وأسماع جميع أفراد المجتمع.
في كل بيت ومنزل ينبغي أن تسمع العوائل آيات القرآن، الكبار منهم والصغار، وحتى الوليد الرضيع في مهده، وفي المدارس، وفي الأسواق والمحال التجارية، وفي السيارات ووسائل النقل، وفي كل مكان، بدل أن يسمع الناس الغناء والموسيقى واللغو الذي يزيدهم غفلة وبعداً وفساداً.
وإن مجرد سماع آيات القرآن له نفع جميل الناس، لأنه كلام الخالق إلى خلقه ذوي الفطرة الطبية والوجدان والضمير.
إن الرحمة هي نصيب المجتمع الذي يصغي إلى آيات الرحمن، يقول تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 204) , فلا ترى في مثل هذا المجتمع انتشار الجريمة والفساد والضلال والظلم الذي يسبب الشقاء والعذاب والتعاسة.
ولكن .. حتى تنتج التلاوة القرآنية ثمارها الجميلة ينبغي أن تراعى معها أربعة أمور:
الأول: التلاوة المرتلة، فهذه هي التي تنفذ إلى أعماق القلب وتؤثر في السلوك، وقد قال الله U لنبيه الأكرم r : ? ورتل القرآن ترتيلاً ?
الثاني: ينبغي أن تكون التلاوة واعية ذات تأمل وتفكر وتدبر وتفهم، وقد قال ربنا جل وعلا: ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? (محمد:24)
الثالث: لابد وأن تكون التلاوة مستمرة كي لا يبتعد عن القرآن وننسى أهدافه،
إن التلاوة والتدبر والمصاحبة المستمرة هي التي تحصّن الإنسان وتهديه، وتجعله ثابتاً، لا يتأثر بالأضاليل ولا تجرفه التيارات المنحرفة. ? وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? (آل عمران:101)
الرابع: ينبغي أن تكون التلاوة عملية، فيبذل القارئ وسعه في العمل بما مر عليه من إرشاد وأمر أو نهى.
وأخيراً؛ الأمر الذي لا بد من سلوكه لنقترب من القرآن ونحقق أهدافه هو تواصي أهل الخير فيما بينهم، وتعاونهم مع بعضهم البعض التواصي قولاً، والتعاون فعلاً، ودعوة الناس إلى هذا القرآن
ولو عمل أي مجتمع بهاتين القيمتين فإنه لا يضل عن هدى القرآن، يقول الله تعالى منبهاً إلى ضرورة التواصي والتعاون {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر: 3) .. ويقول جل شأنه: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2).
ينبغي أن يكون أبناء المجتمع يدا واحدة متكاتفين، يهدي الراشد منهم الضال، ويعلم البصير الجاهل، ويصلح الواحد منهم الآخر، ويدفع بعضهم بعضاً إلى الحق والهدى والخير، ويرشد القريب قريبه، والوالد ولده، والجار جاره، والصديق صديقه ...
والخلاصة: إن بين أيدينا كتاباً مجيداً عظيماً، علينا أن نتخذه وسيلة لمعرفة الله، وتطهير أنفسنا، ودفعها نحو الخير والعمل الصالح، ولا يتم ذلك إلا بالإقبال على القرآن، وتلاوته الواعية المستمرة.
وبالتواصي القولي والتعاون الفعلي نقترب أكثر فأكثر من هدى القرآن ونور الرحمن.
¥