أمر الله تعالى بترتيل القرآن وأكده بالمصدر في قوله عز وجل: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: من الآية4)، ومحل الإخلال الملحوظ في هذا: حينما يقرأ المرء بمفرده، بخلاف القراءة الجماعية على طريقة الإدارة بالقرآن. فتقع العجلة والهذرمة، وعدم توضيح الحروف، وإعراب الكلمات، وحسن الوقوف على الجمل.
عن حفصة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. أخرجه مسلم – والشاهد آخره –
وعن يعلي بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، قالت: مالكم وصلاته، ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا.أخرجه أحمد والترمذي والنسائي بسند صحيح
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني سريع القراءة وإني أقرأه في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة فى ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلى من أن أقرأ كما تقول. أخرجه البيهقي وغيره
وقال رجل له: أني رجل سريع القراءة وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلى من أن أفعل مثل الذي تفعل، فإن كنت فاعلا لا بد، فاقرأه قراءة تسمع أذنيك ويعيه قلبك. أخرجه البيهقي
وعن الشعبي قال: إذا قرأت القرآن فاقرأه قراءة تسمع أذنيك ويفقه قلبك، فان الأذن عدل بين اللسان والقلب. أخرجه ابن المبارك في (الزهد)
الوقفة الرابعة: الخشوع حال القراءة.
إلى الله المشتكى من قسوة القلوب التي لاتوجل، وقحط العيون التي لاتدمع حال قراءة القرآن، ورحم الله القائل:
ولو أن عينا ساعدت لتوكفت
سحائبها بالدمع ديما وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها
فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا
قال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23)
وقال ربنا سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16)
وقال عز وجل: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (الاسراء: 106 - 109)
فحسبنا هذه الآيات السالفات، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود في قراءته سورة النساء مشهور عند الجميع.
وهكذا كان سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم كما جاء عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء رضي الله عنها: كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى؛ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قلت: فإن ناسا ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما
الوقفة الخامسة: التفاعل مع القراءة.
وهذا من أسباب التدبر، وحضور القلب حال القراءة.
ومن صور ذلك: السؤال والتعوذ والتسبيح في مواضعها، كما في قصة صلاة حذيفة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ " رواه مسلم
وعن ابن عباس أنه قال: " إذا قرأ أحدكم (سبح اسم ربك الأعلى) فليقل: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل: اللهم بلى، أو: اللهم سبحان ربي بلى " أخرجه البيهقي في الشعب.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا قرأت (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) قالت: اللهم من علي، وقني عذاب السموم. أخرجه البيهقي في الشعب
والأمثلة في هذا كثيرة
ومن صور التفاعل: أن تتصور توجه الخطاب لك مباشرة، كما نقله الشيخ أبو مجاهد عن ابن القيم رحمه الله.
ومن صور التفاعل: تكرار الآية، وإمرارها على القلب، كما كرر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118).
والله أعلم.
¥