وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض. وقال: (ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة) (12).
وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه؛ فإن من نافلة القول أن أذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن -.
الشبهة الأولى: اشتبه عليه المراد بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ)} [البقرة: 106]، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله: {بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها.
قال - رحمه الله -: (وأمَّا قول الله عزوجل {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ)} فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها) (13).
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها.
ولهذا (فقول القائل: إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً، ردٌّ لخبر الله الصريح، فإن الله يقول: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ)} [البقرة: 106] فكيف يُقال: ليس بعضه خيراً من بعض؟.
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء.
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً، فلايجوز حمله عليه، فإنه لايُعرف قط أن يقال: هذا خير من هذا وأفضل من هذا، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه، فهذا لايعقل وجوده، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة: {لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها} فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره) (14).
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه، كما قال ابن حجر: (ويؤيد التفضيل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ)}) (15) ا هـ.
الشبهة الثانية: أن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها.
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح، وبعضه غير صحيح.
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال، وليس فيها نقص، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص، وهذا لايجوز.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال: (قول القائل: صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص، كلام صحيح، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض، وبعض أفعاله أفضل من بعض.
¥