ففي الآثار، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم، واسمه الكبير واسمه الأكبر، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة، عن أبيه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا رجلٌ يصلي يدعو: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب} (16).
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي} وفي رواية: {سبقت رحمتي غضبي} (17).
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك} (18)، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، فقد استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته.
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين: يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها، لكن باعتبار جهتين تصح) (19) أ هـ.
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة.
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث، وبالله التوفيق.
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق، فإنه إذا قيل: إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه.
(قالوا: وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته. ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة، قال: {أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال}.
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة، فلما علم أنهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات، قال ما قال. وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض، لا في نفسه، ولا في لوازمه ومتعلقاته، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً) (20).
وأخيراً نقول: إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه.
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه.
الحواشي السفلية
(1) انظر: رهان في علوم القرآن للزركشي 2/ 67 - 73 النوع الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟.
¥