تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سبق أنّ المعاني في أنفسها وإن كانت على درجات متفاوتة ومراتب مختلفة ليست بذات تأثير في البلاغة والإعجاز؛ إذ أن شرط البلاغة إنما هي المطابقة بين حقيقة المخبر عنه- بغض النظر عن أهميته – وبين النظم الدال على ذلك، فالمعنى مجرداً ليس له مزية وكذلك النظم المجرد؛ بل الفضل كلّ الفضل في التطابق بين الأمرين؛ ولأجل ذلك يقول الجرجاني: (ليس من فضل ومزيّة إلا بحسب الموضع "أي موضع الكلمات من النظم" وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم)

ولما كان الأمر كذلك فإنّ مسألة التفاضل بين التعابير القرآنية المختلفة إنما هي نهاية مطاف كلّ من اعتد بالمعنى مجرداً أو باللفظ مجرداً؛ ولهذا يقول ابن سنان الخفاجي المعتزلي الذي مال إلى اللفظ: (وزيادة بعض القرآن على بعض في الفصاحة فالأمر فيه ظاهر لا يخفى على من علق بطرق من هذه الصناعة وشدا شيئاً يسيراً، وما زال الناس يفردون مواضع من القرآن يعجبون منها في البلاغة وحسن التأليف …. فلو كانوا يذهبون إلى تساويه في الفصاحة لم يكن لإفرادهم المواقع المعنية المخصوصة - دون غيرها – معنى؛ وليت شعري أي فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وأفصح من الآخر، ثم ليس لأحد ممن ينكر أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض يمتنع من القطع على أنّ القرآن في لغته أفصح من التوراة في لغتها والإنجيل في لغته والزبور في لغته، لأنّ تلك الكتب عنده لم تكن معجزة لخرقها العادة في الفصاحة وإن كان الجميع كلام الله تعالى. فما المانع أن يكون بعض كلامه الذي هو القرآن أفصح من بعض حتى تكون آية منه أفصح من آية - والجميع كلام الله - كما جاز عنده أن يكون القرآن أفصح من الإنجيل وإن كان الجميع كلام الله؛ وهذا لا يخفي على محصّل)

ورغم أن هذا الكلام يبدو متماسكاً منطقياً صحيح القياس إلا أنّ الأمر فيه بخلاف ما أوهم الظاهر؛ إذ أنّ فيه كثيراً من الباطل والتلبيس؛ حيث أنه بني على أمور ليس به بالصحيحة المتفق عليها ابتداء وهي:

أولاً: كانت النقطة التي منها انطلق ابن سنان وعليها بنى – هي قضيّة (خلق القرآن) الاعتزالية المشهورة، وهذه القضيّة ينتج عنها- بطبيعة بنائها – أنّ الصورة اللفظية للقرآن غير صادرة من الله ولا هو الناطق بها؛ وإنما هي مخلوقة له في محل، ومن المعلوم بالضرورة أنّ التفاضل بين المخلوقات أمر لا ينكره أحد ولا يردّه أحد، ولأجل ذلك ألفى ابن سنان القاعدة الفكرية العقدية حاضرة لديه فبنى عليها حتى فاضل بين آيات القرآن وجعل هذا التفاضل كتفاضل وجوه البشر.

ثانياً: إنّ الفصاحة التي جعلها ابن سنان المقياس الذي به يقيس إنما هي – عنده - أمور جمالية لفظية مستقاة من اللفظ المفرد- أو هي المشكلة التي جاهدها الجرجاني، وهذه الفصاحة التي قرَّرها ابن سنان ينتج عنها الاعتداد بمفردات اللغة خارج السياق القرآني بل وغيره من السياقات العربية الأخرى؛ فيستحسن بعضها ويستبشع الآخر، وهذا الأمر يفضي إلى رفع الإعجاز جملة؛ إذ ينتج عنه في نهاية المطاف القول بأنّ بعض المفردات اللغوية التي لم ترد في القرآن لهي أفصح من مفردات القرآن نفسها كما أنّ القرآن –حسب زعمه- يقع فيه اللفظ الفصيح والأقل فصاحة وغير الفصيح، ولهذا تفاضلت التعابير القرآنية عنده دون أدنى ريب، وهذا المذهب واضح البطلان.

ثالثاً: بنى ابن سنان على أنّ القرآن أفصح من التوراة والإنجيل والزبور؛ وهو كمن زعم أنّ الماء أكثر زرقة من الشجر؛ مع أنّ الشجر ليس بالأزرق إطلاقا؛ ثم رجع فاعترف بأن هذه الكتب - وان كانت كلام الله - إلا أنها ليست بمعجزة كالقرآن لعدم خرقها العادة في الفصاحة؛ فكيف بنى عليها إذا لم تكن معجزة في الفصاحة، أو بمعنى آخر إذا لم يقل أحد بإعجاز هذه الكتب من حيث الفصاحة؛ فلا يمكن لعاقل أن يجعل شيئاً غير مشترك بين أمرين علة للقياس في أمرين آخرين، حيث جعل ابن سنان المقارنة بين القرآن البليغ وبين الكتب السماوية التي لم يقل ببلاغتها أحد – مقدمة يقرر بها التفاضل في الفصاحة بين آيات القرآن البليغة في أنفسها. وهذه مغالطة بيِّنة البطلان؛ إذ أنّ العلّة في القياس غير مشتركة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير