تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

رابعاً: استدل ابن سنان بإفراد الناس لمواضع من القرآن، ومن المعلوم – بادي الرأي – أنّ استحسان الناس ليس بأمر علمي منضبط، والعلم لا يقوم على الانطباعات؛ وإنما يقوم على الأدلة والبراهين، فرب موضع استحسنه إنسان بحسب خلفياته الفكرية والعقدية والنفسية فعلّل استحسانه تعليلاً جيداً فشاع؛ فباختلاف الخلفيات الفكرية والنفسية والثقافية للبشر تختلف مواضع استحسانهم، وهذا أمر معلوم.

فالمعاني القرآنية لا تتزايد ولا تتفاضل إلا خارج النظوم؛ أما من حيث دلالة النظوم عليها فلا تتفاضل؛ إذ أنّ شرط البلاغة هي التطابق المتميّز بين المعنى الدقيق والنظم الدقيق، والقرآن كله قد تطابقت معانيه ونظومه تطابقاً شديداً حتى بلغ الغاية، وإذا ما تأمل المرء بتفحص شديد هذا التطابق يجد أنه أصل البلاغة والموضع الذي يعظم فيه الفضل وتكثر المزية ويحدث التفاوت الشديد ويتقدم بعض الكلام بعضاً حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع وتحسر الظنون وتستوي الأقدام في العجز؛ وهذه هي الدرجة التي بلغها القرآن دون سواه.

ولكن إذا كان القرآن قد فاق كلّ كلام وإذا كان أيضاً غير متفاضل التعابير في نفسه وإنما هو على درجة واحدة وهي الدرجة التي ليست بعدها درجة فإنّ الاختلاف والتباين بين تعابيره أمر واضح ظاهر لا ينكره أحد، ولكن هذا الاختلاف إنما هو في حقيقة أمره موازاة للمعنى المراد ودقة في التطابق، إذ أنّ النظم هو المرآة الدقيقة للمعنى؛ فإذا ما اختلف المعنى اختلف باختلافه النظم وتغير، ولأجل ذلك ترى الله تعالى يأتي بالتقدّيم في آية وبالتأخير في آية أخرى ويأتي بالتعريف في آية والتنكير في آية أخرى؛ وكذلك الأمر في الحذف والذكر وفي الفعلية والاسمية وغير ذلك من الأمور المختلفة المعاني.

وكل تلك الفروق قد أصابت المعنى المراد وكانت في مكانها الأنسب الأليق؛ ولو وضع غيرها لم يحسن، إذ أنّ لكل كلام مقام؛ ولكل نظم وتركيب معنى، وهذه الفروق كما هو واضح لا تعتبر في أنفسها؛ وإنما تعتبر من حيث نسبتها إلى المعاني والأغراض والنظوم؛ يقول الجرجاني: (اعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها … ثم اعلم أن ليس المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض المزية بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام؛ ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض)

ولما ثبت أن التعابير القرآنية في درجة متفقة من البلاغة وعلى قدر واحد من الإعجاز وفي سماء واحدة من الحسن والجمال؛ إذ لكل آية ما لأختها من الفضل والمزية فإن هذه الفروق التعبيرية تصبح موضعاً للأسرار وبرهاناً تتكشف به خبايا البلاغة والإعجاز والمعاني.

خلاصة:

- القرآن في نفسه لا تتفاضل آياته من حيث إعجازها أو بلاغتها أو نسبتها إلى الله تعالى فكله كلامه الذي لا يدانيه كلام

- من الممكن أن تتفاضل المعاني الخارجية التي تناولتها الآيات وهي أمور خارج النص ولا يلزم عنها أن الآيات متفاضلة في أنفسها وإن كان ما تناولته هذه الآيات متفاضلا

- الإخلاص ثلث القرآن يعني أنها تناولت ثلث معاني القرآن؛ إذ أن القرآن ثلاثة أثلاث: خبر عن الخالق "توحيد" وخبر عن المخلوق وأحكام " أوامر ونواه"

- من الممكن أن يقال إن قوله تعالى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) لا يشير إلى وقوع النسخ والتفضيل والإنساء في آيات القرآن؛ إذ أن السياق كله كان في الحديث عن اليهود الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا برسالة جديدة؛ فلما جاءت كفروا بها، وقالوا نؤمن بما أنزل إلينا دون غيره فهو الحق الذي لا يتغير، ولو كانت الرسالة الجديدة بأحكامها الجديدة موافقة لما عندنا فقد استغنينا بما عندنا عنها، وإن كانت مخالفة - وهذا ما حدث – فهذا دليل على أنها ليست من المصدر الذي جاءت منه التوراة، وهو الله، وما هذه الأقوال إلا لحسدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ قال تعالى في سياق ذلك: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير