فنسب عبد الله بن عامر قراءته إلى أنها حروف أهل الشام في هذه الرواية التي رواها لي العباس بن الوليد، ولم يضفها إلى أحد منهم بعينه، ولعله أراد بقوله: إنها حروف أهل الشام أنه قد أخذ ذلك عن جماعة من قرائها، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا، ولو كانت قراءته أخذها كما ذكر عراك بن خالد عن يحي بن الحارث عنه عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن ليترك بيان ذلك إن شاء الله تعالى مع جلالة قدر عثمان، ومكانه عند أهل الشام، ليُعَرِّفهم بذلك فضل حروفه على غيرها من حروف القراء)). نقلاً عن مقال للشيخ أحمد بن فارس السلوم في ملتقى أهل الحديث.
وقال أبو عمرو الداني في كتاب جامع البيان (مخطوط / لوحة 28): ((وقد كان محمد بن جرير الطبري فيما أخبرنا الفارسي عن عبد الواحد بن عمر عنه يضعِّف اتصال قراءة ابن عامر ويُبْطِل مادتها من جهتين:
إحداهما: أن الناقل لاتصالها مجهول في نقلة الأخبار …في حملة القرآن وهو عراك بن خالد المقرئ، وأنه لم يرو عنه غير هشام بن عمار وحده.
والثانية: أن أحدًا من الناس لم يَدَّعِ أن عثمان أقرأه القرآن، قال: ولو كان سبيله في الانتصاب؛ لأخذ القرآن على من قرأه عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيره من المسلمين؛ إما من دانيه وأهل الخصوص، وإما من الأباعد منه والأقاصي، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس به رحما وأوجب حقا من المغيرة؛ كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته، ومن الأباعد من لا يُحصى عدده كثرة.
وفي عدم مدعي ذلك على عثمان ـ رضي الله عنه ـ الدليلُ الواضحُ على بُطُولِ قولِ من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن شهاب، ثم إلى أن أخذها المغيرة عن عثمان قراءة عليه)) انتهى.
وهذا الموقف من الطبري من جهة علمية مقبول، أي: أنه لم يردَّ القراءة من باب الجهل أو الهوى، وإنما ردَّها لاعتبار علميٍّ مقبول من جهة البحث، لكن النتيجة التي توصَّل إليها غير صحيحة، ولم يقبلها العلماء الذين اعتبروا قراءة ابن عامر ورضوها، وقد تلقها الناس بالقبول.
فالذي استنكره الطبري من السند، وهو عراك بن خالد قد عرفه غيره ووثَّقه في النقل، ومن عرف حجة على من لم يعرف.
وعراك له رواية في الحديث، وقد ذكره المحدثون في تراجمهم، ومن أوسع تراجمه ما ذكره المزي في تهذيب الكمال، وقد ذكر من روى عنهم، وهم:
إبراهيم بن أبي عبلة، وإبراهيم بن وثيمة النصري، وأبوه خالد بن يزيد المري، وأبو أمية عبد الرحمن بن السندي مولى عمر بن عبد العزيز، وعبد الملك بن أبان، وعثمان بن عطاء الخرساني، ويحيى بن الحارث الذِّماري، وقرأ عليه القرآن.
ثمَّ ذكر من رووا عنه، وهم:
أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن بن بكار الدمشقي، وأبو الفضل الربيع بن ثعلب المقرئ، وقرأ عليه القرآن، وعبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المقرئ، ومحمد بن ذكوان الدمشقي، ومحمد بن وهب بن عطية السلمي، ومروان بن محمد الطاطري، وموسى بن عامر المريّ، وهشام بن عمار، وقرأ عليه القرآن.
ونقل المزيُّ عن المقرئ أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني، قال: عراك بن خالد من المشهورين عند أهل الشام بالقراءة والأخذ عن يحيى بن الحارث، وعن أبيه، وعن غيره بالضبط عنهم. (ينظر: تهذيب الكمال 5: 149).
ومن كان هذا حاله في الآثار والقرآن، فقد ارتفعت عنه الجهالة التي حكم بها الطبري رحمه الله، فما كان بالنسبة له مجهولاً لا يُعرف، كان بالنسبة لغيره معروفًا موثَّقًا في نقل القراءة، والله أعلم.
وممن اعترض عليه وردَّ قوله أبو عمرو الداني فقد انتقده بعد سياقه لاحتجاج الطبري السابق، كما لذا نبَّه الشاطبي إلى عدم الاغترار بنقد الطبري لقراءة ابن عامر.
ولا شكَّ عندنا اليوم أنَّ قراءة ابن عامر من القراءات المقبولة المتلقاة جيلاً بعد جيل بالرضا والقبول، وأنَّ قول الطبري ـ مع جلالته ـ غير مقبولٍ فيها، وإن كان بالنسبة له هو عنده وجه في عدم قبولها؛ لأنَّ سندها لم يتصل عنده.
ثُمَّ أعود فأقول: إنَّ أوَّل ما يجب على من زعم أنَّ ابن جرير أنكر قراءة متواترةً أن يُثبتَ تواترها عند ابن جرير أوَّلاً، ثمَّ يُسلَّم له تعبيره هذا.
أما أن يُحكَّم ابن جرير إلى مصطلح لم ينشأ إلا بعده، فإن هذا مما لا يخفى بطلانه علميًّا، وهذه مسألة تعود إلى معنى التواتر في القراءات، ومتى نشأ الحكم بتواتر السبعة أو العشرة.
فتسبيع السبعة أو تعشير العشرة والحكم عليها أنها هي القراءات المتواترة، أو السبعة متواترة والثلاثة الأخرى مشهورة ـ على اختلافٍ لا أثر له في صحة قراءتهم ـ إنما جاء بعد ابن جرير، والحكم عليه بشيء جاء بعده ظاهر الفساد.
وأرجو ـ بعد هذا ـ أن يتضح الموقف الصحيح من الإمام الطبري في ردِّه للقراءات التي حكم العلماء بقبولها، وهو عدم الاعتداد بردِّه وإنكاره لها، لكن لا يقال إنه أنكر قراءة متواترةً، والله الموفق.
¥