لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [[الزخرف: 12 - 13]
وجاء هذا الفعل هنا متعدياً بحرف الجر] عَلَى [الذي فيه معنى الاستعلاء
والركوب.
قال ابن كثير: (لتستووا متمكنين مرتفعين) [8]، فتكون هنا بمعنى: علا
على الدابة والفلك واستعلى على ظهرها متمكناً منها. وجاء هذا الفعل متعدياً بـ
] إلَى [في موضعين في قوله:] ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ [[البقرة: 29] وفي الآية
11 من سورة فصلت. قال أبو العالية: استوى ارتفع. وقال مجاهد: استوى علا. وقد فسرها الطبري بالعلو بعد أن ذكر أقوالاً كثيرة حيث قال: (وأوْلى المعاني في
قوله عز وجل] ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ [علا تبارك وتعالى عليهن، ودبرهن
بقدرته، وخلقهن سبع سماوات) [9]. وذكر ابن حجر في تفسير:] اسْتَوَى [
أقوالاً عديدة ثم قال: (وأما تفسير] اسْتَوَى [علا فهو صحيح وهو المذهب الحق
وقول أهل السنة؛ لأن الله تبارك وتعالى وصف نفسه بالعلو [10]. أما الحافظ
ابن كثير: فقد جعل الفعل] اسْتَوَى [متضمناً لمعنى القصد والإقبال؛ لأنه عُدِّيَ
بـ: (إلى) أي قصد إلى السماء [11] وهنا يجب علينا أن نتوقف ونقارن بين هذه
الآيات التي كان الاستواء فيها على الدابة وعلى الفلك بالآيات السبع السابقة التي
كان الاستواء فيها على العرش وإلى السماء؛ وكلها تعدت بحرفي الجر:] عَلَى [
و] إلَى [فهل يتفق هذا الاستواء بذاك؟ اللهم! لا؛ لأن استواء البشر العاجز
الفاني لا يشابه استواء الكامل المتفرد بألوهيته وربوبيته؛ فيكون استواء الله على
عرشه يليق بجلاله وسلطانه، واستواء البشر على مركوبه يليق بفقره وعجزه.
وقد يتماثل اللفظان ولكن يجب أن يعبر كل واحد بمعنى لائق بالمقام الذي قيل
فيه؛ فالقرآن حكى وصف الهدهد لعرش بلقيس فقال:] وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [
[النمل: 23] وبيّن القرآن وصف عرش الرحمن فقال:] رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [
[النمل: 26] كلاهما وصف بالعظمة وبينهما من البون ما لا يعلمه إلا الله؛ فعرش
بلقيس عظيم بين عروش الملوك مثلها، وعرش الرحمن أعظم؛ فلا بد من اعتبار
المقام في فهم الكلام.
وهنا يجب أن يتوقف دور العقل والتوهم والتخيل وإفساح المجال للسمع
والنقل وحده؛ وهو الكفيل بضمان عدم الوقوع في الردى وهو التشبيه والتأويل.
فاستواء البشر على الفلك والأنعام معقول المعنى محسوس مشاهد، واستواء الله
على عرشه لا تدركه العقول؛ لأن الأول مضاف إلى البشر، والثاني مضاف إلى
الواحد الأحد:] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [[الشورى: 11].
منهج السلف في مثل ذلك:
وهذا هو منهج السلف في إثبات الاستواء لله على وجه يليق بجلاله وكماله من
غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل [12].
ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والسؤال عنه بدعة) [13].
قال الحافظ الذهبي في كتاب العلو بعد ذكره لقول مالك: وهو قول أهل السنة
قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في
كتابه، وأنه كما يليق به: لا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً
ولا إثباتاً؛ بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى
بيانه الصحابة والتابعون؛ ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه؛ ونعلم يقيناً
مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله
سبحانه وتعالى [14].
الكرسي في القرآن واللغة: ثم نواصل الشرح إلى الجملة الثانية: (والكرسي
حق) أقول: إن الكرسي حق ثابت في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه-صلى الله
عليه وسلم-، نؤمن به على ما جاء في كتاب الله، ولا نشتغل في البحث عن
صفته. وقد ورد في القرآن في موضعين:
أولهما: في قوله تعالى:] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا
وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ [[البقرة: 255].
ثانيهما: في قوله تعالى:] وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [[ص: 34].
ويجب علينا بادئ ذي بدء أن نفرق بين الاستعمالين للفظ (كرسي) في الآيتين: الأول مضاف إلى الله عز وجل والثاني مضاف إلى نبي الله سليمان. فالأول
¥