مضاف إلى الخالق، والثاني مضاف إلى المخلوق. فإذا علمنا هذا فإننا لا نقع في
مزالق المتكلمين؛ فتماثل اللفظين يجب أن يُفهم من كل منهما معنى يليق بالمقام،
وإذا تأملنا الكرسي المضاف إلى المخلوق في اللغة نجد أن ابن منظور ذكره في مادة: (كرس) وقال: كرس: تكرس الشيء وتكارس: تراكم وتلازب. وتكرس أسّ
البناء: صلب واشتد.
والكرس: أبوال الإبل والغنم وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار ثم
قال: والكرسي في اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه كما يقال: اجعل لهذا
الحائط كرسياً: أي ما يعتمد عليه [15].
أقول: ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى:] وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [
وهو الكرسي الذي كان يجلس عليه نبي الله سليمان عليه السلام للحكم؛ فهذا معقول
المعنى؛ فهو بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه؛ فإن زاد على مجلس واحد
وكان مرتفعاً فهو العرش كما تقدم في قوله تعالى:] وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ [
[يوسف: 100] فهذا هو الكرسي المضاف إلى البشر معقول المعنى، مشاهد
محسوس؛ فهو من عالم الشهادة.
أما قوله تعالى:] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
العَلِيُّ العَظِيمُ [[البقرة: 255] فهو من عالم الغيب كما قدمنا؛ فيكون طريقنا إلى
فهمه النقل والنص؛ لأن الكرسي هنا مضاف إلى الله عز وجل. ومعنى هذه الجملة
يقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. ولا يسعك
هذا: أي لا تطيقه ولا تحتمله؛ ومنه قوله: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا
اتباعي) أي لا يحتمل غير ذلك. والمعنى أنها صارت فيه، وأنه وسعها ولن يضيق
عنها لكونه بسيطاً واسعاً. وقوله:] وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [آده يؤوده: إذا أثقله
وأجهده أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما [16].
والضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى ويجوز أن يكون للكرسي؛ لأنه من
أمر الله؛ فالآية تدل على أنه شيء عظيم دون التعرض لذات الكرسي. وروي عن
عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (إن كرسيه وسع السماوات والأرض،
وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من الثقل) [17].
الأقوال في معنى الكرسي:
وهنا يتأخر العقل وينتهي الدور المنوط به، ويتقدم النقل؛ فمن التزم النص
والنقل فاز وظفر بالمطلوب، ومن خالف فقد وقع بالزلل، ومن هؤلاء:
1 - جماعة من المعتزلة نفوا وجود الكرسي وأخطأوا في ذلك خطأ بيِّناً.
واختار هذا الباطل: القفال، والزمخشري، وقالوا: ما هو إلا تصوير لعظمته
وملكه؛ ولا حقيقة له، وقيل هو ملكه [18].
2 - وذهب جماعة إلى أن كرسيه هو قدرته التي يمسك بها السموات والأرض
كما يقال: اجعل لهذا الحائط كرسياً أي ما يعتمد عليه.
3 - وقيل إن الكرسي هو العرش رواه ابن جرير الطبري عن الحسن
البصري وذكره ابن كثير واختار هذا جلال الدين السيوطي. قال القرطبي: (وهذا
ليس بمرضٍ) [19]. وقال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش،
والعرش أكبر منه؛ كما دلت على ذلك الآثار والأخبار [20].
4 - وقال جماعة: كرسيه: علمه وهو عبارة عن العلم، رواه الطبري عن
ابن عباس من طريقين؛ ومنه قيل للعلماء: كراسي؛ لأن العالم يجلس على كرسي
ليعلِّم الناس، ومنه الكراسة التي يُجمع فيها العلم، ورجح هذا ابن جرير
الطبري [21]، وهي رواية شاذة عن ابن عباس كما قال الشيخ أحمد شاكر.
5 - والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في المستدرك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى:] وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [أنه قال: الكرسي: موضع القدمين، والعرش لا يقدِّر
قدره إلا الله [22]، وصحح هذه الرواية الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فقال: (هي
رواية علم الله شاذة لا يقوم عليها دليل من كلام العرب؛ ولذلك رجح أبو منصور
الأزهري الرواية الصحيحة عن ابن عباس التي تقول: إن الكرسي موضع القدمين، وقال: هذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها؛ ومن روى عنه في الكرسي أنه
العلم فقد أبطل) [23]، ورجحه الشوكاني في تفسيره فقال: (والحق القول الأول
موضع القدمين ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن
¥