تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فحرف الحرام تحصل به طهرة البدن، وتحصل قراءة هذا الحرف بالورع الحاجز عما يضر بالجسم ويؤذي النفس وما يكره الخلق وما يغضب الرب. أما حرف الحلال فتأتى قراءته من جهة القلب بمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته، ومعرفة أخص منافعها مما خلقه، ومن جهة النفس بسخائها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات وصبرها عما تشتهيه من المضرات، والتراضي وطيب النفس فيما يقع فيه الاشتراك، ومن جهة العمل بالأدب.

"وكما كان حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر، فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال؛ ليحصل به الصبر" (ص102) وتحصل قراءته، من جهة القلب بمشاهدة البصيرة لوعود الجزاء، ومن جهة النفس بصبرها عن الشهوات، ومن جهة العمل بكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام. وتحصل قراءة حرف الأمر من جهة القلب بالتوحيد والإخلاص، ومن جهة النفس بالطمأنينة بالله، ومن جهة العمل بأدب الجوارح.

وتحصل قراءة حرف المحكم بتحقيق العبودية في القلب، وذل النفس وانكسار الجوارح. وتحصل قراءة حرف المتشابه بمعرفة القلب بالعجز عن معرفة جميع أسماء الحق وأوصافه، وباستكانة النفس لما يوجبه تعرف الحق بتلك الأسماء والأوصاف، وليس لعمل الجوارح في هذا الحرف مظهر سوى حفظ اللسان عن ألفاظ التمثيل والتشبيه.

"وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً، "وله الدين واصباً"، "والذين هم على صلاتهم دائمون"، فالذي تحصل به قراءة هذا الحرف، إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف الستة التفصيلية" (ص115).

التوشية والتوفية

سمى الحرالي رسالته الثالثة "التوشية والتوفية"؛ لما تقدم إثباته من كتاب العروة ومفتاحها، ففصلُ التوشية تحدث فيه عن "تفاوت وجه الخطاب فيما بين ما أنزل على وفق الوصية، أو أنزل على حكم الكتاب" فما أنزل على وفق الوصية خاص بالقرآن الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتتعاضد فيه الوصية والكتاب، أما الثاني فهو ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين، وكتب المتقدمين.

أما فصل التوفية فيشتمل على "تناول كلية القرآن لكلية الأمة", بمعنى أن ما ورد من أخبار وقصص السابقين وأهل الأديان في القرآن "إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه بمشاهد متكررة في هذه الأمة، من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار، حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأيمتها، هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم" (ص126 - 127)، ويتابع في هذا السياق وقوع الأديان التي ذمها القرآن في هذه الأمة ومظاهر ذلك، ونلمس من هذا التحليل المنزع الأخلاقي والعملي الذي يسعى إلى تجليته من خلال هذه القوانين التي يؤسسها في فهم القرآن، "فمن حق القارئ أن يعتبر القرآن في نفسه، ويلحظ مواقع مذامه للفِرَق، ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان، لئلا يكون ممن يسب نفسه بالقرآن وهو لا يشعر" (ص138)، ويقول "أفضل الناس مؤمن في خلق حسن، وشر الناس كافر في خلق سيء" (ص137).

أخيراً .. وبعد استعراض مضامين رسائل الحرالي الثلاث التي تناولت أصول فهم للقرآن، يمكن أن نلحظ أن المنزع الصوفي لدى الحرالي لا يبدو بذاته هو المحرك لرسائله بقدر ما هو البعد العلمي في تأطير الفهم العملي للقرآن الذي يستل منه ما يخص سلوك الإنسان وعلاقته بالقرآن والتاريخ، فلئن كان التفسير الإشاري [1] قد وقع في إشكال القطيعة مع لغة النص والسياق، والتفسير قد أسر بقوانين اللغة والنحو، والتأويل قد استلب إلى علم الكلام والمتشابهات، فإن الحرالي يحاول في هذه الرسائل أن يقنن "فهم القرآن" كطريق للتعامل مع النص لا يتجاوز التفسير ولا التأويل إنما يلج إلى اللب والمقصد والجوهر المتعلق بالإنسان وترقيه في السلوك والأخلاق.

ولعل ما كتبه الحرالي يمثل خطاً مجهولاً في الدرس القرآني، وتنبع أهميته من البعد التأسيسي ومحاولة التقعيد لنمط من الفهم الذوقي العميق للقرآن، فهماً يتجاوز التقول الباطني والشطح الصوفي، ولا يكون أسيراً للتفسير الظاهري، والمنطلق الذي أعان الحرالي في تأطير رؤيته هو الرؤية الكلية للقرآن، لا في ذاته فقط إنما في سياق علاقته التاريخية مع الكتب والأديان، وفي ضوء الصلة بين الله والإنسان.

ورغم أن هذه الرسائل قد صدرت منذ أكثر من عقد إلا أنها لم تنتشر بين الدارسين بما يعطيها حقها ومكانتها التأسيسية والإبداعية في أصول التفسير، ولعل هذا التعريف بها يفتح أفقاً لتتبع ما فيها من أصول وقواعد يمكن أن تثري الدرس القرآني المعاصر، ولعل ما جمع من تفسيره يسهم في تعميق هذه الرؤى وتوضيحها.

[1] عُرَف التفسير الإشاري بأنه:"تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضاً" فهو التفسير الصوفي الذي يلحظ إشارات في الآيات، ولا يقف عند ظاهر الألفاظ فقط، ويختلف عن التفسير الباطني الذي يفترض معنى باطناً مقصوداً غير الظاهر، بأنه لا ينفي الظاهر بالضرورة، أو يدعي قصدية المعنى المشار إليه أصالة.

المصدر: الملتقى الفكري للإبداع ( http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?module=a03d2d93ebd0f677e44ac7a2cc6ad d3d&cat=1&id=741&m=fbace5d8138ae33c78f95f58a4c582f2) .

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير