إن شاء الله، وعرجت على بنسيون أنجلو سويس قرب ميدان التحرير فلم أجد الأستاذ محمد، وسرت من هناك عائداً إلى البيت بعد أن اشتريت كتاب: في التاريخ فكر ومناهج، وبعض الصحف العراقية التي نحرص على شراء أي عدد يصل منها إلى القاهرة، فهي نافذة نطل بها على أرض الوطن وساكنيه.
شعر منثور (6)
الجمعة 17 كانون الثاني 1975م = 5 محرم 1395هـ
كل شيء من حولنا يدور في انتظام
الشمس في الصباح تؤنس الوجود
وفي المساء يقبل الظلام .. وألق النجوم
وهذه الغيوم .. والأنهار تجري من قديم
وفي الربيع تورق الأزهار
كل شيء من حولنا يدور بانتظام
من قبلنا يدور بانتظام
وكل ما نبصره يخضع للناموس
ثم ننظر كيف يعمل البشر
خليفة الأرض والتعمير
هو الوحيد الذي يزعم الخروج على ذلك النظام
فيحطم نفسه على صخرة النظام
في هوة سحيقة القرار
حتى العصافير في فلك تدور
لكنه يزعم أنه كبير
أكبر من هذه الجبال
أوسع من تكلم الصحراء وظلمة البحار
ما أجمل أن ندور في ظل هذا العالم الرحيب
ندور بانتظام
فنشرب الرحيق من كل أزهار الحياة!
محروس
السبت 18 كانون الثاني 1975م = 6 محرم 1395هـ
يعمل في قسم المخطوطات في دار الكتب المصرية أناس كثيرون، بعضهم نرى لهم بعض الأعمال، كأن يجلسوا خلف طاولة أو يناولوا مخطوطاً، والبعض الآخر ليس لهم من الأعمال الظاهرة إلا الثرثرة والتسكع، ولعل أكثرهم اتصالا بالمراجعين هو (محروس) ذلك الفتى البائس، لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة أشعث أغبر، عيناه مريضتان، ملابسه بائسة تلتصق على جسد قد أهزلته السنون، محروس هو الذي يجلب المخطوطات للمراجعين، ولاحظت أنه يماطل في أحيان كثيرة، وربما اعتذر بأن المخطوط غير موجود، وهو جواب يتكرر في دار الكتب، وما كان الأمر ينفع مع هذا البائس إلا بالحقن المنشطة، فحقنته أول الأيام بعشرة قروش، فبدأت حركته تشتد وتزداد سرعة، وصار له في كل يوم خمسة قروش، وإني لأستقلها ولكنه يبدو قد طابت له الحكاية، في اليوم الذي أتناسى فيه أمر الخمسة قروش يعدو عند خروجي من الدار ويحاول أن يختلق له عملاً، ولكنه في الحقيقة يحاول أن يذكرني بالموعد، وإذا استيأس قال مع السلامة يا أستاذ، واليوم فعل ذلك فأمسكته من يده، وحاولت أن أجعله يسير معي قليلاً، فسألته عن دراسته، فقال إنه لم يدرس في مدرسة، وإنما تعلم الكتابة خارجها، وأما راتبه فيدعي أنه ثلاثة جنيهات في الشهر، ووالده يعمل في فرن للعِيش (الخبز)، ووَفَّيْتُ بالوعد لكن كانت صورة البؤس قد خيمت عليَّ وأنا أتساءل كم في مصر، وكم في هذا العالم البائس أمثال محروس، ومن هم أكثر تعاسة وبؤساً منه.
القانون
الأحد 19 كانون الثاني 1975م = 7 محرم 1395هـ
"القانون بيئول كده"! "القانون ميسمحش"! أحد العاملين في دار الكتب بقسم المخطوطات يرفع دائماً هذا الشعار، ويحاول أن يدفع به كثيراً من طلبات المراجعين، كلما احتاج إلى عذر أو كلما أراد أن يمارس ضغطاً رفع ذلك الشعار، ولعل الدافع في كلتا الحالتين واحد، لعله - والله أعلم – يبغي من وراء ذلك شيئاً يصعب عليه التصريح به؛ فيبدو أن في قانون الدار: يمنع استعمال قلم الحبر في نسخ أي معلومات من المخطوطات، فلا بد من استعمال قلم الرصاص، وكنت أتردد على دار الكتب أياماً عديدة والناس ينسخون بالحبر والجاف ولا أحد يعترض، ومرة حدثت ضجة في قسم المخطوطات لأن مدير الدار أزمع زيادة القسم، وتهيأ الموظفون وكذلك أرادوا أن يتهيأ معهم الباحثون، وتذكروا أن قانون الدار ينص على استعمال قلم الرصاص، فأمروا بإخفاء أقلام الحبر، ومر يوم بعد زيارة المدير الذي لم يكن يفكر بهؤلاء الجالسين ولا بما يكتبون به، مر يوم وإذا بذلك الموظف يطلب منا مرة أخرى استعمال أقلام الرصاص، ونتساءل لماذا؟ فيقول "القانون بيئول كده" (وإذا كان عدكم اعتراض تفضلوا وروحوا للمدير) ومضى يوم ثان ومضى القانون وعاد الناس إلى عاداتهم، طلبت مرة أكثر من مخطوطتين، وتذكر صاحبنا القانون واعترض بأن "القانون مبيسمحش" بأكثر من مخطوطتين، وأنا أنظر إلى أحد المحظوظين من المراجعين والمخطوطات تتكدس أمامه بلا عد ولا حصر، صاحبنا رجل قصير ممتلئ، قد لاح الشيب في رأسه، ولا بد أنه جاوز الأربعين، وهو حريص على القانون في كل مناسبة، وربما إلا
¥