وقد صرح فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن الطهر هو العدة مبيناً أن ذلك هو مراد الله جل وعلا، بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: «فتلك العدة»، راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق. لأن معنى قوله «فليطلقها طاهراً» أي: في حال كونها طاهراً، ثم بين أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدة مصرحاً بأن ذلك هو مراد الله في كتابه العزيز، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر. وأنث الإشارة لتأنيث الخبر، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال العدة غير القروء، و النزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء.
وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي، وإجماع أهل اللسان العربي، على أن عدة من تعتد بالقروء هي نفس القروء لا شيء آخر زائد على ذلك. وقد قال تعالى: {وَأَحْصُواْ العدة} [الطلاق: 1] وهي زمن التربص إجماعاً، وذلك هو المعبر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول: إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئاً يسمى العدة. زائداً على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة، كما هو معلوم.
وفي القاموس: وعدة المرأة أيام أقرائها، وأيام إحدادها على الزوج، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها، وفي اللسان: وعدة المرأة أيام أقرائها، وعدتها أيضاً أيام إحدادها على بعلها، وإمساكها عن الزينةز شهوراً كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها.
فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر، وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله: {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار. لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة.
وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة، وأن التاء إنما جيء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث.
يقال فيه: إن اللفظ إذا كان مذكراً، ومعناه مؤنثاً، لا تلزم التاء في عدده، بل تجوز فيه مراعاة المعنى، فيجرَّد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فجرد لفظ الثلاث من التاء. نظراً إلى أن مسمى العدد نساء، مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على النثى مذكر، وقول الآخر:
وإن كلاباً هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
فجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر. نظراً إلى معنى القبيلة، وكذلك العكس كقوله:
ثلاثة أنفسٍ وثلاث ذود ... لقد عال الزمان على عيالي
فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظاً. نظراً غلى أن المراد بها أنفس ذكور، وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير وتلحقه التاء في الأول ولحوقها إذن مطلق احتمال، ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه، بخلاف عدد المذكر لفظاً ومعنى، كالقرء بمعنى الطهر فلحوقها له لازم بلا شك، واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلاً عنه ولم تدل عليه قرينة كما ترى.
فإن قيل: ذكر بعض العلماء أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة، أو كان قصد ذلك المعنى كثيراً، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك:
ثلاثة بالتاء قل للعشره ... في عد ما آحاده مذكَّره
في الضد جرد إلخ. . . ما نصه: الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسماً فبلفظه، تقول: ثلاثة أشخص، قاصداً نسوة، وثلاث أعين قاصداً رجال. لأن لفظ شخص مذكر، ولفظ عين مؤنث هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى: أو يكثر فيه قصد المعنى.
فإن اتصل به ذلك جاز مراة المعنى، فالأول كقوله:
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر.
وكقوله وإن كلاباً. . البيت.
والثاني كقوله: ثلاثة أنفس وثلاث ذود: اه منه.
¥