واجبات التدبر وسننه:
كما أن للتدبر أركاناً فله واجبات وسنناً، وتتمثل الواجبات بأقل القدر مما سأذكره من المظاهر، وتتمثل السنن فيما زاد على ذلك. وهي كالآتي:
أولاً: الوقوف مع الآيات (بإحضار القلب، وإلقاء السمع، وإمعان النظر، وإعمال العقل)
ثانياً: التأمل فيما وراء النص (بإدراك مغزى الآيات، تفهم المعنى، واستخراج الدلالات والهدايات).
ثالثاً: التفاعل مع الآيات بـ:
1 - القلب (بالإيمان والتعظيم للقرآن وللمتكلم به وهو الله تعالى، واستحضار مقاصد القرآن العامة، والشعور بأن القارئ هو المخاطب بهذه الآيات)
2 - اللسان (بتلاوتها بترتيل وترسل وعلى مكث، وتحزن وتباكي، وترديد للآية، والتفاعل معها بالسؤال والتعوذ والاستغفار عند المرور بما يناسب ذلك)
3 - الجوارح (بالقشعريرة، ودمع العين، والسجود عند آيات السجدة ونحوها).
رابعاً: قصد الانتفاع والامتثال:
1 - قصد الانتفاع بالعلم والإيمان والخشية
2 - قصد الامتثال بالعمل والسلوك.
المحور الثالث: تحرير العلاقة والفرق بين التدبر والمصطلحات القرآنية الأخرى
بالتعريف السابق نستطيع أن نحرر العلاقة والفرق بين التدبر والمصطلحات القرآنية الأخرى، بما لا يلتبس على القارئ والمتدبر:
أولاً: الفرق بين التدبر والتفسير:
الفرق بين التدبر والتفسير ظاهر من وجوه:
أولاً: أن التفسير هو كشف المعنى المراد في الآيات، والتدبر هو ما وراء ذلك من إدراك مغزى الآيات ومقاصدها، واستخراج دلالاتها وهداياتها، والتفاعل معها، واعتقاد مادلت عليه وامتثاله.
ثانياً: أن المفسر غرضه العلم بالمعنى، والمتدبر غرضه الانتفاع والامتثال علماً وإيماناً، وعملاً وسلوكا؛ ولذا فإن التفسير يغذي القوة العلمية، والتدبر يغذي القوة العلمية والإيمانية والعملية.
ثالثاً: أن التدبر مأمور به عامة الناس للانتفاع بالقرآن والاهتداء به، ولذلك خوطب به ابتداءً الكفار في آيات التدبر، والناس فيه درجات بحسب رسوخ العلم والإيمان وقوة التفاعل والتأثر. وأما التفسير فمأمور به بحسب الحاجة إليه لفهم كتاب الله تعالى بحسب الطاقة البشرية، ولذا فإن الناس فيه درجات كما قال ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله" ().
رابعاً: أن التدبر لا يحتاج إلى شروط إلا فهم المعنى العام مع حسن القصد وصدق الطلب، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر 17]، أما التفسير فله شروط ذكرها العلماء، لأنه من القول على الله، ولذا تورع عنه بعض السلف رحمهم الله. ولذا يقال لا يعذر المسلم في التدبر ويعذر في التفسير.
خامساً: أن التدبر واجب على كل حال، وأما التفسير فليس بواجب على كل حال بل هو واجب بحسب الحاجة إليه، ولذا جاء الأمر بالتدبر في كتاب الله دون التفسير.
سادساً: أن التدبر هو الغاية من نزول القرآن لأنه باعث على الامتثال والعمل، وأما التفسير فهو وسيلة للتدبر، ولذا فيقال بأن التدبر أصل والتفسير فرع منه.
ثانياً: الفرق بين التدبر والاستنباط
يقال في الفرق بين التدبر والاستنباط كما قيل في الفرق بين التدبر والتفسير لأن غرض التفسير والاستنباط واحد هو فهم المعنى وما يدل عليه، فالتفسير في الفهم، والاستنباط في الدلالات، وكلاهما من لوازم التدبر.
ويضاف في الفرق بين التدبر والاستنباط أمور:
أولاً: بالنظر في أصلهما في اللغة يتبين الفرق بينهما، فالتدبر هو النظر إلى أدبار الشيء ونهاياته، وهذا يدخل فيه الدلالات والنهايات من الانتفاع والاهتداء، وأما الاستنباط فهو استخراج ما خفي، وهذا مقصور في الدلالات.
ثانياً: أنهما يجتمعان في إعمال الفكر والنظر والتأمل ويختلفان في الغرض، فغرض المستنبط العلم بدقائق المعاني والدلالات والهدايات، وغرض المتدبر يتجاوزه إلى قصد الانتفاع والامتثال والعمل.
ثالثاً: أنه يشترط في التدبر قصد الانتفاع والامتثال بخلاف الاستنباط، وإنما يشترط فيه وجود ما يدل عليه في النص.
¥