وإذا أجمع المفسرون على تفسير فقد صار حجة سواء أكان ذلك في عهد السلف أم بعدهم، فالإجماع في التفسير كالإجماع في الفقه والعقائد، وأدلة حجية الإجماع معروفة. ولا يعقل أن تمضي قرون طويلة على الأمة – ومنها الصحابة والتابعون - وهي لا تعرف تفسير كتاب ربها، حتى يأتي بعض المتأخرين فيستكشف هذا التفسير الصحيح في رأيه. ثم إن فتح باب التفسير المخالف لما كان عند السلف يفتح الباب أمام العلمانيين وغيرهم من الملحدين الذين صاروا يؤلفون التفاسير ويحشونها بالإلحاد في آيات الله، ويفتخرون بأنهم لا يقيمون وزنا لكلام المفسرين المتقدمين، وإنما يعتمدون التفسير "الصحيح" فقط، ولو لم يقل به أحد قبلهم!! وهذا شيخ المفسرين الإمام الطبري لم يتجرأ على تفسير لم يسبق إليه، مع أنه تفسير صحيح معنى ولغة، كما قال: "ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنا لا نستجيز خلافهم في ما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال: ولا تجهر بصلاتك التي أمرناك بالمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهر بها، ولا تخافت بصلاتك التي أمرناك بالجهر بها، وهي صلاة الليل، فإنها يجهر بها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بالتي أمرناك بالجهر بها، وتخافت بالتي أمرناك بالمخافتة بها، لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الحجة من أهل التأويل على خلافه". ويقول الألوسي في تفسير الآية: 34، من سورة البقرة: "ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به، لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات".
أما خطأ بعض المفسرين فلا شك أنه واقع؛ ولذلك نرى بعضهم يرد على بعض، لأن أفرادهم غير معصومين وإنما المعصوم إجماع الأمة، وعلامة الخطإ في التفسير مخالفة القطعيات كالكتاب والسنة والإجماع، وقد أشار السيوطي إلى الخطإ الذي وقع فيه بعض المفسرين حين فسروا "غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، برأيهم فذكروا فيها نحو عشرة أوجه، مع أن تفسير هذه الآية منصوص في الحديث وأجمع عليه المفسرون، كما تقدم في قوله في الإتقان (في النوع الثمانين في طبقات المفسرين): "ثم صار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يرجع إليهم في التفسير، حتى رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" نحو عشرة أقوال، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: "لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين".
وقد نص ابن كثير على الربط بين آية الرعد وآية الأنفال؛ فقال في تفسير آية الأنفال: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وقال الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير آية الرعد: "بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا. والمعنى: أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم، حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ولا داعي لجلب نصوص المفسرين الذين نصوا على أن المغيَّر هو خير، لكثرة هذه النصوص وشهرتها، ويكفي منها قول ابن عاشور الذي رد على التفسير المحدث في قوله: "والتغيير: التبديل بالمغاير؛ فلا جرم أنه تهديد لأولى النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغيرها. فماصدقُ "ما" الموصولة: "حالة"، والباء للملابسة، أي: حالة ملابسة لقوم: أي: حالة نعمة؛ لأنها محل التحذير من التغير، وأما غيرها فتغييره مطلوب".
ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[14 Jun 2010, 05:26 ص]ـ
إجماع المفسرين على معنى لآية لا يمنع من القول بمعنى زائد دلت عليه الآية كما هو في هذه الآية التي نحن بصددها، وهذا المعنى الصحيح الذي تحتمله الآية قد دلت عليه آيات أخرى من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أين الإجماع في المسألة؟
الطبري قال:
وقوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) يقول تعالى ذكره: (إن الله لا يغير ما بقوم)، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره."
وهذا القول لم نر الطبري يستدل عليه بآية أخرى تدل على أن هذا المعنى الوحيد الذي يجب أن تحمل عليه الآية، ولا بحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا بقول صحابي.
نعم أخرج السيوطي في الدر المنثور:
"وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} لا يغير ما بهم من النعمة حتى يعملوا بالمعاصي، فيرفع الله عنهم النعم."
وهذا القول إذا صح عن بن عباس فلا يقيد الآية بهذا المعنى المذكور.
فالقول أن المفسرين أجمعوا قول يفتقر إلى الدقة.
¥