وأما النماء في الاقتصاد الإسلامي فإنه يعمد إلى استغلال الموارد التي هيَّأها الله - تعالى - للإنسان أفضل استغلال لإعمار الأرض والمحافظة على النوع البشري في إطار من أخلاق الإسلام وتحقيق مقاصده الشرعية بما يحقق الكفاية للجميع من خلال منظومة «الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات».
الموازنة والتحليل:
بالنظر إلى الاستراتيجية والخطط في كلا النظامين الإسلامي والوضعي يتبين لنا شرف الاقتصاد الإسلامي وعلوُّه على غيره، وبيان ذلك فيما يلي:
الهدف الاقتصادي في النظام الوضعي هو تحسين متوسط دخل الفرد نتيجة لزيادة معدلات الدخل القومي.
وقد يبدو المدخل مشرقاً بما يدفع إلى هذا التساؤل: وماذا في هذا الهدف؟ إنه هدف نبيل فلماذا نقف عنده؟ لكن هذا الإشراق لا يلبث أن يزول بعد أن يجنَّ عليه الليل، وذلك عندما نعلم أن الناتج القومي المقصود ينظر إلى النمو على مستوى المجتمع، لا على مستوى الأفراد، ويعالج الزيادة في الإنتاج الكلي وفي الدخل القومي، لا في إنتاج كل فرد ومقدار دخله.
وبناءً على ذلك يجري حساب معدلات النمو من خلال حساب الإنتاج الكلي الذي ينتجه المجتمع كلّه والدخل الناتج عن هذا الإنتاج، وبناءً على حساب الميزان التجاري وما يحققه من عجز أو فائض في الدخل الكلي، ثم بناءً على هذه الحسابات الكلية يجري تقدير افتراضي لدخل الفرد ومقدار كفايته أو رفاهيته، وهو تقدير يبعد كثيراً عن الواقع.
ولهذا نجد المجتمعات الرأسمالية كلما ازدادت غنىً ازداد طردياً أعداد الفقراء فيها.
أما الاقتصاد الإسلامي فإنه لا ينظر إلى التنمية - رغم أهميتها - على أنها القضية الاقتصادية الأولى؛ لأن سُلَّم الأولويات في الاقتصاد الإسلامي نابع من منهج الإسلام نفسه من العناية بكل فرد في المجتمع ليتمخض عن ذلك الرعاية المجتمعية الشاملة، ومن ثم فإن المشكلة الأولى التي يسعى الاقتصاد الإسلامي إلى القضاء عليها هي الكفاية الإشباعية من الحد الضروري أولاً لدى جميع أفراد الرعية بغض النظر عن وفرة الموارد أو ندرتها.
وهذه الكفاية لا يُنظر إليها باعتبار المجموع أو باعتبار متوسط الدخل، وإنما يُنظر فيها إلى الأفراد فرداً فرداً، ويتم حلُّها عن طريق تنظيم توزيع الثروة من خلال الزكاة والنفقات والمواريث، ومن خلال رعاية الدولة للفقراء والمساكين وفي ضوء المفهوم الشامل للتكافل الاجتماعي الإسلامي.
وهذا هدف نبيل جداً يضمن حفظ النوع بجعله مسؤولية المجتمع المسلم ثقة في أن رزق الله يسع الجميع، وليس معنى ذلك أن الاقتصاد الإسلامي يحط من شأن النمو الاقتصادي وزيادة الإنتاج، ولكنه يجعلها في المرتبة الثانية من الأهمية بعد تحقيق الكفاية والحياة الكريمة لجميع أفراد الرعية.
فالإسلام يراعي هذا التسلسل الذي ذكره الشاطبي في موافقاته: الضروريات - الحاجيات - التحسينيات.
وهو بهذا المنطلق لا يسعى إلى التغلب على المشكلة الاقتصادية الرئيسة في الاقتصاد الوضعي وهي مشكلة «الندرة النسبية» لسبب واضح وهو أن الإسلام لا يعترف أصلاً بها؛ فالقرآن الكريم يذكر لنا في العديد من آياته أن الله - تعالى - قد أودع هذه الأرض رزق أهلها:
ومن هذه الآيات ما يلي:
1 - قوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 92].
وهي آية سيقت في مقام الإنعام على بني آدم، وهي نعم كثيرة جداً تضمن لهم العيش بأمان وكفاية بل برفاهة أيضاً إن هم اجتنبوا أسباب الدمار وكرَّسوا جهدهم للإعمار والنماء. ويساعد على تلمس هذا المعنى التعبير بـ «ما» المشعرة بعموم ما في الأرض ثم تأكيده بهذه الحال «جميعاً»؛ إذ هي حال من «ما» على الأرجح بقرينة السياق؛ إذ هي في سياق تعداد النعم وهي مؤكدة لمعنى العموم المستفاد من الموصول «ما».
والآية في الوقت ذاته تؤكد على شراكة النوع البشري فيما خلق لأجله {خَلَقَ لَكُم} بلا طمع ولا جشع، بل بعدالة اجتماعية تضمن للجميع الحد الضروري، وبعدها يكون التفاوت مقبولاً بعد تجاوز الحد الضروري إذا شرفت الغايات وسلمت الوسائل.
ويؤكد المفسرون على أن المنفعة المفهومة من قوله «لكم» تشمل المنفعة الدينية والدنيوية. يقول العلامة أبو السعود في تفسيره لهذه الآية:
¥