«أي: خلق لأجلكم جميعَ ما في الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة، وأمورِ دينكم بالاستدلال بها على شؤون الصانعِ تعالى شأنُه، والاستشهادِ بكل واحدٍ منها على ما يلائمُه من لذّات الآخرة وآلامِها، وما يعمُّ جميعَ ما في الأرض» [1].
2 - قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 01].
وفي هذه الآية أيضاً يتبدَّى معنى العموم للمنتفعين من نعمتَي التمكين والعيش من خلال الشمولية في قوله: {مَكَّنَّاكُمْ} وقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}. والتمكين في الأرض هو القرار فيها بالسكنى والانتفاع بالنِّعم الظاهرة فيها، فيشمل نباتها وحيوانها وماءها، وفوق هذا جعلها طيِّعة مسخرة للمنعمين تجود عليهم بما في باطنها عند مباشرة أسباب حصوله.
وهذا حاصل؛ فكم استخرج الإنسان بمباشرة الأسباب ما في باطن الأرض من خيرها ومنه النفط والمعادن، وما ذلك إلا بتسخير الله - تعالى - للأرض وجعلها مذلَّلة للإنسان، قال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 02]، وقال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 51].
و «معايش» جمع معيشة، قال ابن عادل في اللباب: «المعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا، وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش» [2].
والمعنى على هذا «جعلنا» ما يكون به العيش للجميع، وهذا يشمل ما يتحصل عليه بالطريق المباشر من النِّعم الظاهرة، أو بمباشرة الأسباب من النِّعم الباطنة، أو التي تحتاج إلى حراك بشري بطريق التصنيع.
وهذه الآية كسابقتها شاهدة بأن الأرض تحوي أسباب المعيشة للجميع.
3 - قوله - تعالى -: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
هذه الآية وحدها كافية في القطع بأن رزق الله مضمون لكل متحرك على الأرض بل في الأرض؛ فضلاً من الله - تعالى - ألزم به نفسه حتى إنه ساقه مساق الواجبات عليه مع أنه - سبحانه - لا يجب عليه شيء فقال: {عَلَى اللَّهِ}. ولتأكيد هذا المعنى قال - سبحانه -: {فِي الأَرْضِ} ليشمل هذا ما نعرفه مما يدب على الأرض وما يستقر في داخلها مما لا نعرفه ولا يعلمه إلا الله، ولذلك قال بعدها: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فهذه المعاني العظيمة التي يكتسبها المؤمن بإيمانه هي التي تساعده على تخطي عقبة الشره المادي والطمع فيما في أيدي الآخرين وتدفع به نحو مساعدتهم ليس فقط بما ألزمه به الإسلام وفرضه عليه كالزكاة، ولكن صدقات التطوع تشق طريقها في المجتمع المسلم ممثلة في المشاريع الخيرية والتبرعات العينية والأوقاف ونحو ذلك، ولا إخال مجتمعاً آخر يُقْبِل فيه الأثرياء على الفقراء كما يوجد في مجتمع الإسلام، ولا أتصور أن كلمة «تبرُّع» تُذكر في مجتمع كما تُذكر في المجتمع المسلم.
وليس ذلك إلا لأن المسلم يثق في أن الذي رزقه هو الله، وأن رزقه هذا فيه حق لغيره ينبغي إخراجه، وأن هذه الحياة الدنيا كلها بنعيمها ما هي إلا قنطرة للآخرة.
4 - وقوله - تعالى -: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 91 - 02].
وهذا النص الكريم يؤكد على هذه الحقيقة الكبرى التي هي عندنا من دعائم الإيمان، وهي أن الله - عز وجل - قد كفل للجميع، أرزاقهم وأن هذه الأرض غنية بما يضمن العيش للجميع، ودلائل ذلك في الآية:
أ - قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}:
وقد اختلف في مرجع الضمير في قوله «فيها» على رأيين كل منهما يعطينا دلالة قوية على ما نحن بصدد تقريره:
فقيل: هو راجع إلى الأرض، ويرجحه دلالة السياق؛ لأن الحديث في النص الكريم هو عن الأرض وما فيها من نعم الله على العباد، ولأن النبات يكون فيها، ولأن الأرض شاملة للجبال أيضاً وما فيها.
¥