وهو رأي وجيه مفادُه أن ما يخرج من الجبال هو خارج من الأرض، ومعلوم أن المعادن تخرج من الجبال، والنبات النافع أكثره يخرج من الأرض أي: من التربة.
وقيل: هو راجع إلى الجبال [3].
وأيّاً ما كان مرجع الضمير فهو يؤكد على الحقيقة ذاتها التي تُفنِّد كل زعم يعلن فقر الأرض.
وهو زعم يدفعه أيضاً هذا الوصف {مَّوْزُونٍ}، قال ابن جرير الطبري: أي مقدر وبحد معلوم [4]. وهو تلخيص جيد لما عليه السلف في بيان معنى اللفظ، وهو هنا ميزان الحكمة بما يضمن حاجيات من كلفوا بإعمار الكون.
ب - قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}:
وهذه الآية تقرر زيادة على ما سبق في معنى المعايش في آية الأعراف؛ أن رزق كل إنسان مناط بمن بيده الرزق ومفاتحه؛ فلا يجزعن إنسان خوفاً من أن يردَّ أحد عنه رزقاً قد قدَّره الله له.
وفي الآية ردٌّ على غرور من يعتقدون أن بيدهم مفاتيح رزق الخلق وأنهم سيمنعونهم هذا الرزق إن لم يركنوا إليهم ويمشوا في ركابهم.
وهذا المعنى مبنيٌّ على ما ورد عن السلف في تفسير قوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}، فقد ورد عنهم أن المعنيَّ بهم العبيد والإماء والدوابّ والأنعام، حيث إن كثيراً من الناس يظنون أنهم هم من يرزقون ضعفاءهم من البشر ومن الحيوان، فردَّت عليهم الآية بأن الله - تعالى - يرزق الجميع: السادة والعبيد؛ فكيف إذن يرزق غيره من لا يملك رزق نفسه؟
والموصول في جملة {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} وهو «مَن» الظاهر فيه أنه «في موضع جرٍّ عطفاً على الضمير المجرور في (لكم)، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش» [5].
والمعنى: جعلنا في الأرض معايش لكم، ولمن لستم له برازقين وهم ضعفاؤكم [6].
5 - قوله - تعالى -: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 01].
وشاهدنا هنا هو قوله - تعالى -: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} فهي قاطعة في النص على احتواء الأرض على ما يقتاته كل من عليها وما عليها.
قال ابن جرير الطبري في معناها: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم [7].
وإضافة الأقوات إلى الأرض لكونها خارجة منها، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.
وفي تفسيرها يقول الفخر الرازي: «قوله {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي: قدَّر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه - تعالى - جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى إن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول: صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحِرَف والصنائع بركة؛ لأن الله - تعالى - وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}. وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً» [8].
راصد الدراسة:
ينتهج أكثر علماء الاقتصاد الإسلامي منهجاً تلفيقياً من خلال استخدام مصطلحات الاقتصاد الوضعي في محاولة للتوفيق بينه وبين الاقتصاد الإسلامي، ولا نستطيع أن نغضَّ الطرف عن تكلُّف الكثيرين منهم في محاولة التقريب بين مفاهيم اقتصادية وافدة صيغت لمجتمعاتها غير الإسلامية وبين الاقتصاد الإسلامي المؤسس على نصوص الكتاب والسنة.
ويعمل بعض علماء الاقتصاد الإسلامي على تنقية المفاهيم الاقتصادية الوضعية من الشوائب التي تتعارض وفلسفة الإسلام الاقتصادية؛ لتتسق معها، ومع ذلك فإن هناك نوعاً من الإصرار على استخدام المصطلحات نفسها رغم أن تراثنا ولغتنا أقدر من غيرهما على تحمل المضامين الاقتصادية، حتى عندما يعمد بعضهم إلى ذكر المصطلح كما هو موجود في تراثنا مثبتاً أنه أسبق في وضعه عن المصطلح الوضعي، إلا أن هذا يبقى في الإطار النظري، فإذا نزلنا إلى الواقع وجئنا إلى المؤسسات المالية كالبنوك فوجئنا بشيوع المصطلح الوضعي بلا منازع.
¥