تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الشيء الذي يجب أن نذكِّر به أن المنهج الذي اتبعه الجابري هو منهج معروف في خطوطه العامة، وقد أشار هو بنفسه إلى أن فكرة تفسير القرآن، وفقاً لترتيب النزول تعود إلى المستشرق الفرنسي ريجس بلاشير الذي قام بترجمة "معاني القرآن" إلى الفرنسية (1947 - 1950) على أساس ترتيب النزول الذي وضعه ثيودور نولدكه، وإلى محمد عزة دروزة في "التفسير الحديث" (1961 - 1964)، ونضيف نحن تفسير عبد الرحمن حبنكة الميداني (1927 - 2004) "معارج التفكر ودقائق التدبر"، أي أنه من حيث خطوط المنهجية العامة لم يأتِ بجديد، وإنما جديده يكمن في تفاصيل المنهج وطريقة تطبيقه التي جعلته يسميه "التفسير الواضح".

الجابري يعترف بأن مسألة الترتيب التي "فصّل القول فيها كثير من المؤلفين قديماً وحديثاً" لا يحسمها النص التاريخي (الوثائق التاريخية) الصحيح؛ ذلك أن الوثائق (النصوص) التي تتعلق بالترتيب التاريخي للقرآن مضطربة وليست على درجة من التوثيق يمكن الاطمئنان إليها بشكل تام، فضلاً عن أن "كثيرا منها يطرح مشكلة التوافق في السياق" (سياق السيرة النبوية الشريفة)، إلا أن الجابري يعود ليستند إليها على أساس أن الاستناد إليها لمعرفة ترتيب القرآن أمر لا مفر منه، إنه "ترتيب ضروري، ولكنه لا يكفي".

الجابري يرى ضرورة إعادة ترتيب القرآن بالاستناد إلى "لوائح الترتيب المتشابهة" معيارا "جديداً" لملء الفراغ المنهجي في ضبط نزول السور وإزالة الاضطراب في لوائح الترتيب، وخصائص "التمييز بين المكي والمدني" والاتساق "وقائع السيرة النبوية"!

هذان المعياران يفرضهما الغرض، وهو "بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني"، حيث لا بد من اللجوء إلى "التصرف" لحل المشكلة، أي لابد من "اجتهاد مبني على الظن والترجيح"، فهو تصرف "تبرره النتائج التي يمكن استخلاصها منه".

حسناً إذا، إذا كان هذا هو الموقف "العلمي" للجابري، فلم منح نفسه الحق أن ينتقد بقسوة محاولة بلاشير (ومِن ورائه نولدكه) الذي قام بالأمر نفسه "تماماً"؟! فقد استند نولدكه إلى معيار مركب، يستند من جهة على "الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية" تتعلق بالسيرة النبوية، ومن جهة أخرى يستند على "خصائص النص القرآني، وبالخصوص منها الفرق الواضح بين السور المكية والسور المدنية، سواء على مستوى الأسلوب، أو على مستوى الموضوعات". غير أن الجابري مع ذلك عقّب بالقول: "إنه لا جديد" في تحقيب بلاشير لترتيب القرآن!

من حق الجابري وغيره أن يفسروا المصحف وفق ترتيب النزول، وهذا النمط التفسيري يمثل بطبيعة الحال ضرورة لفهم كيف توطد الإسلام في البيئة العربية في القرن السابع الميلادي، ولكشف العلاقة الحميمة بين الخطاب القرآني وظروف تنزيله، غير أن هذا النمط التفسيري يعتريه احتمالية مضاعفة تقلل من قيمته، فمن جهة ترتيب النزول غير قابل للحسم بعد، بسبب إشكالات ذكرها الجابري نفسه، والمفسر يحتاج لما سماه الجابري "التصرف" الاجتهادي الظني ليطمئن إلى ترتيب معين، عبر "خلق" معايير خاصة به (قابلة للرد والطعن)، ومن جهة ثانية فإن المفسر يقوم بتأويل الآيات اعتماداً على التأويل الأول (ترتيب النزول)، أي أن التفسير ههنا هو في واقع الحال "تأويل التأويل"!! فهل هذا هو "التفسير الواضح"؟! أين يكمن الوضوح في تلافيف التأويل المضاعف هذا؟! لقد أشار الصديق الدكتور رضوان السيد محقاً في مقاله عن "محمد عابد الجابري وتفسير القرآن" (الحياة- 08 أيار (مايو) 2010) إلى أن هذا "أدعى الى ألا يكون التفسير واضحاً على الإطلاق".

إنه لأمر مثير للدهشة أن يسمَّى الكتاب بـ"التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" ولا يتضمن أي من أجزائه الثلاثة تعريفا ولو إجرائيا لمفهوم "التفسير"! ولا حتى في الكتاب المؤسس "مدخل إلى القرآن"!، فليس ثمة أي نوع من الضبط والتعريف لمفهوم التفسير كما أشرنا من قبل، فهل يعني ذلك أن الجابري يستخدم مصطلح التفسير وفقاً لاصطلاح علماء القرآن؟ أم أنه يستقي مفهوم "التفسير" وكذلك "الفهم" من النظريات الإبستمولوجية الحديثة؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير