"فهم القرآن" ـ كما يطرحه في كتابه التعريفي بالقرآن "مدخل إلى القرآن"، ليس هو من "أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن" فهم في عموم الأحوال يدرسونه في مقامات مختلفة عن المقام الذي يدرس فيه الجابري القرآن. هذا الفهم للظاهرة القرآنية غايته النظر إلى "القرآن بوصفه معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا".
لقد شعر الجابري أن هذه المقدمة قد تقود القارئ للالتباس، فيظن أن ما سيقوم به الجابري هو "كتابة تفسير للقرآن"؛ فسارع الجابري فوراً لرد هذا الخاطر "المتسرع" وأعلن قائلاً: "إننا لا نريد أن يفهم القارئ أننا بصدد كتابة تفسير للقرآن"، فهذا "الفهم للقرآن" في الواقع هو ليس أكثر من مجرد "تعريف بالقرآن"، و"التعريف بالشيء قد يكون بوصفه من الخارج، وقد يكون بتبيان مسائله وموضوعاته وإبراز حديثه عن نفسه. وهذا كله لا يمكن القيام به بالنسبة إلى القرآن من دون الرجوع إلى خطابه، وبالتالي محاولة فهم هذا الخطاب"، وبالتالي لا بد من فهم القرآن من أجل تعريفه الأمر الذي سيقتضي بالضرورة "تفسيراً لنصوص من القرآن"، لكن ذلك لا يعني أنه تفسير للقرآن، إنه فقط في جزء منه تفسير "لبعض" آيات من القرآن لا أكثر.
في النهاية تمثل محاولة الجابري محاولة محمودة لقراءة القرآن من منظور تطور تاريخي لنصوصه، إلا أننا نؤكد أن هذا لا يعني أن الجابري من الناحية المنهجية قد ابتكر شيئاً جديداً، فهو في النهاية يستعيد منهجا مسبوقا، ومن الصعب وفق هذا فهم هذا الإعجاب بنفسه بعد إنجاز الجزء الثاني حين يقول: "يمكن القول، من دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكناً عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري"!
الرجل اتبع خطوات نولدكه (رغم نقده الشديد لها) مع بعض التعديل، ونحن ندعو إلى مقارنة واسعة مع مؤلَّف "تاريخ القرآن"، فربما تقود إلى مراجعة مشروع الجابري بوصفه نسخة مطورَّة عن مشروع نولدكه.
ومع ذلك ورغم كل الملاحظات التي أشرنا إليها في هذا البحث عن "فهم القرآن" فإن الكتاب في النهاية يمثل إضافة لفهم السيرة النبوية قبل أن يكون إضافة لفهم القرآن، ذلك أن فائدة مراجعة خطاب عالمي لرسالة خاتمة لا يمكن أن يُحشر في زوايا تاريخ النزول، إنما يمكن أن يكون مساعدا لفهم التاريخ، وهذه هي الإضافة الحقيقية التي تقدمها منهجية "التفسير وفق ترتيب النزول". وإذا كان لا بد من تحديد إضافة الجابري في حلقات سلسلة هذا النوع من التفاسير، فهي أنه اجتهد في تعديل الترتيب محاولاً جهده أن يربطه بوقائع السيرة على نحو متواصل، الأمر الذي لم يكن ملاحظا على هذا النحو من قبل (وخصوصاً في تفسير عزة دروزة)، بحيث صار "فهم القرآن" لدى الجابري أقرب إلى "فهم السيرة" من خلال القرآن وليس العكس.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[28 May 2010, 10:50 ص]ـ
مقالة قيمة بارك الله فيك أخي العزيز، وهذه هي الخلاصة في هذا الكتاب حقاً، إنها مسبوقة بِمُحاولاتٍ أكثرَ هُدوءاً منها، ولم يَثُر حولها هذا النقدُ الذي ثار حول الجابري، ولعل إضافتها لفهم السيرة النبوية أكثر، علماً أن هناك من استخرج بعض أحداث السيرة النبوية من خلال القرآن مرتبةً كما فعل الدكتور محمد بكر عابد في كتابه (حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي نشرته دار الغرب الإسلامي، وقد قدم له الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري وأشار فيه إلى محاولة المستشرق الألماني نولدكه ترتيب القرآن على حسب النزول. وقد يكون هناك جهود أخرى في هذا الميدان، سلكت المنهج نفسه.
ـ[عبدالرحمن الحاج]ــــــــ[28 May 2010, 03:40 م]ـ
الذي جعل الجابري يحظى بهذا الاهتمام هو أنه يمتلك أدوات منهجية جديدة، وجاء إلى الدراسات القرآنية من خلفية معرفية مختلفة حتى عن المستشرقين. إضافة إلى ذلك الاهتمام بعموم إنتاج الجابري يرجع إلى دوره في شد الفكر العربي (غير الإسلامي) إلى احترام التراث وإعادة قراءته وفهمه في وقت كان فيه هؤلاء المفكرون العرب غارقون في العمى الأيديولوجي، وأذكر أني حضرت مناقشة له في منتصف التسعينات في مدرج كلية الآداب في جامعة دمشق، في الأسبوع الفلسفي الذي يقام سنوياً، وأذكر جيداً كيف ثار غضباً "صادق جلال العظم" ("شيخ" الماركسية في سورية) بسبب اللغة التي يتعامل فيها الجابري مع التراث الإسلامي، خصوصاً عندما نفى الجابري فيها بشدة أنه "علماني" قائلاً إنه "مسلم" فحسب.
صحيح أن الجابري لما دخل حقل الدراسات القرآنية تكشف عن "فقر" في هذا الحقل من الدراسات، لكنه هو أيضاً نفسه خضع لتحول تأثراً بها، وعلينا عند قراءة ما كتبه الرجل أن نلاحظ ذلك، فالتغيير أمر طبيعي يحدث في البشر، طبعاً كل هذا لا يجعلنا لا نرى المشكلات فيما يكتبه ولا يمنعنا من نقده فهذا حقنا جميعاً.
¥