فهذه الليلة التي تميزت بقدرها وشرفها عن باقي ليالي أيام الشهور كلها، يشرق فيها نور يضئ ما بين الأرض والسماء، ليلة فيها البركات والفضائل تتنزل من السموات على أهل الأرض من أثر صعود دعواتهم ومناجاتهم، تغتسل القلوب من آثار ذنوبها ومعاصيها ببكاء التائبين النادمين، تزكوا النفوس فتستضئ بنور الرحمة الإلهية والحب لله سبحانه، تتشوق القلوب فرحا وتعلقا بخالقها، فتزداد حنينا وشوقا لرؤية خالقها، تبدأ النفس محاسبة لسلوكها وتصرفاتها على ما فات منها في ليالي سابقات وعلى ما اقترفت الجوارح من آثام وسيئات فتغتسل بالدموع المنهمرة من بين جفون الندم والخوف والرجاء، يطول سجود النواصي على باب الله مبتهلة لخالقها ورب السموات فتزداد النفس لذة بالقرب من الرحمن.
إنها ليلة تتزين بنور أضاء السموات، ترى الكون كله ساجدا لله، الملائكة في حراك ما بين الأرض والسماء تملء الكون كله في تسبيح وتهليل وتقديس، ينزل الروح الأمين (جبريل عليه السلام) معيدا الذكرى الأولى لنزوله بالقرآن على قلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت البدايات.
ترى الملائكة كل في شغل من أمر الله، يفعلون ما يؤمرون من الله في شأن العباد، فيكتبون الآجال والأقدار من جديد بأمر من الرحمن، فمن كان منشغلا بالدعاء والابتهال حظي من الله بما فيه الخير للأيام الباقيات، وتنزلت عليه البركات والرحمات، ومن أعرض عن ربه وغفل عن تلك اللحظات ونام في سبات الشهوات والمعاصي فقد نال الخسارة والذل والهوان.
إنها الليلة التي أمن فيها كل شئ، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، تنزل الأمن في كل شئ وانتفى الخوف سوى من الرحمن، فالكون في سكون ونسائم الرحمات تتراقص على وجوه العابدين لتبشرهم بالفجر الجديد، ليلة يطول أمنها ويلقى فيها السلام فيسلم كل شئ في الوجود من الشرور والآفات بنزول فضائل الرحمن، ليلة يفرح الله بها بعباده المقبلين فيباهي بهم ملائكته، إنها ليلة الجزاء العظيم لكل من اجتهد وعمل لينال الفلاح والفوز العظيم، إنها الليلة الخاتمة لذلك الشهر العظيم فتسبق بمجيئها الفرحة الكبرى يوم العيد فرحة المؤمن بإفطاره وفرحته بفوزه العظيم.
والله لولا محبة الله للناس ما جعل كل ذلك الفضل الكبير لهم، بأن أهدى لهم ليلة واحدة في ثوابها وأجرها كألف شهر (أي ما يعادل 83 عاما)، فأي كرم من الله على عباده يجازيهم به في الدنيا، وأي حب ينزله الله في قلوب عباده وأي سلام وأمن يلقيه على صدورهم، فلولا أن الله الواحد الأحد، الرحمن الرحيم بعباده، السابق برحمته عذابه وعقابه، ما حظي العباد بكل ذلك الفضل الذي يجدد الإنسان به نفسه فيخلع ثوب المعاصي والذنوب ليرتدي لباس الطهر والتقوى، فيزكو ويرتقي ليرتفع في أعلى الدرجات ويشرفه الله في أعلى المقامات، فيقدر الله له ما فيه الخير في الدنيا والآخرة ويصرف عنه مقادير الشر ويسيرها لما فيه الخير له، فيعود الإنسان من جديد كيوم ولدته أمه ليبدأ عهده الجديد مع الله، فإذا كان كرم الله العظيم يتجلى على العباد في ليله واحده فكيف يكون في باقي الأيام والسنين وكيف يكون يوم اللقاء في جنات النعيم أليس الله هو الإله الذي يحق أن يعبد وأن يقدره العبد حق التقدير، فلا تغفل القلوب عن ذكره ولا الأبصار عن رؤية أثار رحمته وفضله، ولا الأسماع عن سماع ما يزيد من قربه، ولا تقترف الجوارح ما يخالف أمره، سبحانك يا الله ما أعظم فضلك على الناس ولكن أكثر الناس لا يعقلون ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
مما يدل على عظيم هذه الليلة أن
- أن ينسب الله سبحانه إنزال القرآن لنفسه في تلك الليلة زيادة تعظيم لها وتشريف
- أنزل فيها القرآن، أي القرآن أصبح جزء منها في حدوث نزوله في تلك الليلة، أي أن الليلة رفع قدرها وشرفت بسبب نزول ذلك القرآن بها.
- أن يعجز الإنسان عن معرفة قدرها ومقامها عند الله فهذا من دلائل عظمتها وقدرها
- أن يجعل جزاء من أحياها بالطاعات والأعمال الصالحة كألف شهر فهذا من عظيم ما يرفع شأنها وقدرها
- أن تتنزل الملائكة وأعظم الملائكة جبريل عليه السلام وهو رسول الوحي للأنبياء كافة وللرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان يأخذ عن الله القرآن ليلقيه على قلبه صلى الله عليه وسلم، فنزول الملائكة دليل على عظمة تلك الليلة وفضلها عند الله، فأهل الأرض وأهل السماء يشاركون في إحياء وتعظيم تلك الليلة.
- تغير أقدار العباد وأمور حياتهم من الله في تلك الليلة لما فيه خيرهم وسعادتهم نتيجة لما يلجأون فيه إلى الله بالدعاء فهذا مما يدل على فضل وعظيم تلك الليلة المباركة.
- إحلال الأمن والسلام النفسي والجسدي وغيره من الأمن في كل شئ، ثم يمد بوقتها إلى مطلع الفجر كي يأنس بها الإنسان ويحظى بفضلها وبركتها بما يستطيع من أوقاتها فهذا يدل على تعظيمها ورفع شأنها عند الله.
آمال أبو خديجة
26رمضان 2010