ما وقعت والله في ضيق قطّ إلا فرّجه الله عنّي
ـ[نعيمان]ــــــــ[11 Sep 2010, 08:19 م]ـ
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كلّ عام والأحبّة جميعاً إلى الله أحبّ وأقرب.
أحببت أن أعيّد عليكم بهذه المقالة العذبة الرّقراقة لشيخنا الحبيب الطّنطاويّ عليّ رحمه الله تعالى ونوّر تربته وعطّر روضته ووالدي وكلّ أمواتنا.
وهل يكتب الشّيخ غير هذا!! وما أجمل العيش في ظلال معانيها، وترجمتها حيّة تمشي بين الأحياء وتبقى ذخراً بعد الممات.
ومن يملك القدرة على استنتاج الدّروس من هذه المقالة السِّفر فليتحف الأحبّة بها رضي الله عنه وعنهم وأرضاه وأرضاهم.
يقول أديب العربيّة -رحمه الله-:
(نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنّار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكّر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب منّي، والأولاد يكتبون، وأمّهم تعالج صوفاً تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والرّاديو يهمس بصوت خافت، وكلّ شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه؛ فقلت: الحمد لله ... أخرجتها من قرارة قلبي، ثمّ فكّرت فرأيت أنّ "الحمد" ليس كلمة تقال باللّسان ولو ردّدها اللّسان ألف مرّة، ولكنّ الحمد على النّعم أن تفيض ما زاد منها على المحتاج إليها.
حمد الغنيّ أن يعطي الفقراء، وحمد القويّ أن يساعد الضّعفاء، وحمد الصّحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامداً لله على هذه النّعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب عليّ أنا أن أسأل عنه؟
وسألتني زوجتي فيمَ تفكّر؟ فأخبرتها.
قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العباد إلا من خلقهم، ولو أردت أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم.
قلت: لو كنت غنيّاً لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطّير تغدو خماصا ًوتروح بطاناً؟
لا، لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إنّ المسائل نسبيّة. أنا بالنّسبة إلى أرباب الآلاف المؤلّفة فقير، ولكنّي بالنّسبة إلى العامل الّذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غنيّ من الأغنياء، وهذا العامل غنيّ بالنّسبة إلى الأرملة المفردة الّتي لا مورد لها ولا مال في يدها، وصاحب الآلاف فقير بالنّسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدّنيا فقير ولا غنيّ فقراً مطلقا وغنىً مطلقاً.
تقولون: إنّ الطّنطاويّ يتفلسف اليوم.
لا؛ ما أتفلسف، ولكن أحبّ أن أقول لكم: إنّ كلّ واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه.
إذا لم يكن عندك –يا سيّدتي– إلا خمسة أرغفة وصحن "مجدّرة" تستطيعينأن تعطي رغيفاً لمن ليس له شيء، والّذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرّزّ وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلاً لصاحبة الأرغفة والمجدّرة، ومهما كان المرء فقيراً فإنّه يستطيع أن يعطي شيئاً لمن هو أفقر منه، ولا تظنّوا أنّ ما تعطونه يذهب بالمجّانّ، لا والله، إنّكم تقبضون الثّمن أضعافاً تقبضونه في الدّنيا قبل الآخرة، ولقد جرّبت ذلك بنفسي، أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أنّي أبذل في سبيل الله إن كان في يدي مال، ولم أدّخر في عمري شيئاً، وكانتزوجتي تقول لي دائماً: يا رجل، وفّر واتّخذ لبناتك داراً على الأقلّ، فأقول: خلّيها على الله، أتدرون ماذا كان؟
لقد حَسَبَ الله لي ما أنفقته في سبيله وادّخره لي في بنك الحسنات الّذي يعطي أرباحاً سنويّة قدرها سبعون ألفاً في المئة، نعم {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ} وهناك زيادات تبلغ ضعف الرّبح {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}.
أرسل الله صديقاً لي سيّداً كريماً من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدّار، وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضّلين فبنوا الدّار حتّى كملت وأنا –والله– لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفهالمارّة عليها من الطّريق، ثمّ أعان الله برزق حلال لم أكن محتسباً فوفّيت ديونها جميعاً، ومن شاء ذكرت له التّفاصيل وسمّيت له الأسماء.
وما وقعت والله في ضيق قطّ إلا فرّجه الله عنّي، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلّما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا البنك.
¥