ثُمَّ إنَّ للإسناد أهمية كبيرة عِنْدَ المسلمين وأثراً بارزاً؛ وذلك لما للأحاديث النبوية من أهمية بالغة، إذ إنَّ الْحَدِيْث النبوي الشريف ثاني أدلة أحكام الشرع، ولولا الإسناد واهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ بِهِ لضاعت علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولاختلط بِهَا ما ليس مِنْهَا، ولما استطعنا التمييز بَيْنَ صحيحها من سقيمها؛ إذن فغاية دراسة الإسناد والاهتمام بِهِ هِيَ مَعْرِفَة صحة الْحَدِيْث أو ضعفه، فمدار قبول الْحَدِيْث غالباً عَلَى إسناده، قَالَ القاضي عياض: ((اعلم أولاً أنّ مدار الْحَدِيْث عَلَى الإسناد فِيْهِ تتبين صحته ويظهر اتصاله)) (15). وَقَالَ ابن الأثير (16): ((اعلم أنّ الإسناد في الْحَدِيْث هُوَ الأصل، وعليه الاعتماد، وبه تعرف صحته وسقمه)) (17).
وهذا المعنى مقتبس من عبارات المتقدمين.
قَالَ سفيان الثوري: ((الإسناد سلاح المؤمن، إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سلاح فبأي شيء يقاتل؟)) (18).
وهذا أمير المؤمنين في الْحَدِيْث شعبة بن الحجاج (19) يقول: ((إنما يعلم صحة الْحَدِيْث بصحة الإسناد)) (20).
وَقَالَ عَبْد الله بن المبارك: ((الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)) (21).
وعلى هَذَا فالإسناد لابد مِنْهُ من أجل أن لا ينضاف إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ما ليس من قوله. وهنا جعل الْمُحَدِّثُوْنَ الإسناد أصلاً لقبول الْحَدِيْث؛ فلا يقبل الْحَدِيْث إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ إسناد نظيف، أوله أسانيد يتحصل من مجموعها الاطمئنان إلى أنّ هَذَا الْحَدِيْث قَدْ صدر عمن ينسب إِلَيْهِ؛ فهو أعظم وسيلة استعملها الْمُحَدِّثُوْنَ من لدن الصَّحَابَة رضي الله عنهم إلى عهد التدوين كي ينفوا الخبث عن حَدِيْث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ويبعدوا عَنْهُ ما ليس مِنْهُ.
وَقَدْ اهتم الْمُحَدِّثُوْنَ – كَمَا اهتموا بالإسناد – بجمع أسانيد الْحَدِيْث الواحد، لما لِذَلِكَ من أهمية كبيرة في ميزان النقد الحديثي؛ فجمع الطرق كفيل ببيان الخطأ، إذا صدر من بعض الرُّوَاة، وبذلك يتميز الإسناد الجيد من الرديء، قَالَ علي بن المديني: ((الباب إذا لَمْ تجمع طرقه لَمْ يتبين خطؤه)) (22).
ثُمَّ إنّ لجمع الطرق فائدة أخرى؛ فيستفاد تفسير النصوص لبعضها، إِذْ إنّ بعض الرُّوَاة قَدْ يحدث عَلَى المعنى، أو يروي جزءاً من الْحَدِيْث، وتأتي البقية في سند آخر؛ لذا قَالَ الإمام أحمد بن حَنْبَل: ((الْحَدِيْث إذا لَمْ تجمع طرقه لَمْ تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً)) (23).
وَقَالَ الحافظ أبو زرعة العراقي (24): ((الْحَدِيْث إذا جمعت طرقه تبين المراد مِنْهُ، وليس لنا أن نتمسك برواية ونترك بقية الروايات)) (25).
ويعرف – أَيْضاً – بجمع الطرق: الْحَدِيْث الغريب متناً وإسناداً، وَهُوَ الَّذِيْ تفرد بِهِ الصَّحَابِيّ أَوْ تفرد بِهِ راوٍ دون الصَّحَابِيّ، ومن ثَمَّ يعرف هل المتفرد عدل أو مجروح، فتكرار الأسانيد لَمْ يَكُنْ عبثاً وإنما لَهُ مقاصد وغايات يعلمها المشتغلون بهذه الصنعة. قَالَ الإمام مُسْلِم في ديباجة كتابه " الجامع الصَّحِيْح ": ((وإنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها عَلَى ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس عَلَى غَيْر تكرار، إلا أن يأتي موضع لا أستغني فِيْهِ عن ترداد حَدِيْث فِيْهِ زيادة معنى أَوْ إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الْحَدِيْث المحتاج إِلَيْهِ يقوم مقام حَدِيْث تام، فلابد من إعادة الْحَدِيْث الَّذِيْ فِيْهِ ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذَلِكَ المعنى من جملة الْحَدِيْث عَلَى اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته فإعادته بهيأته إذا ضاق ذَلِكَ أسلم)) (26)
.............................. ............................
(1) شرف أصحاب الْحَدِيْث: 40 (76).
(2) أبو علي الحسين بن مُحَمَّد بن أحمد الجياني، ولد سنة (427 ه)، كَانَ إماماً في الْحَدِيْث، وبصيراً بالعربية والشعر والأنساب، لَهُ كتب مفيدة مِنْهَا: " تقييد المهمل "، توفي سنة (498 ه).
¥