تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

طهطاوي وأشباهه. ولكن لما جاء عهد (دنلوب) أصبح كان أمر المبعوثين وحده لا يكفي وأصبح الأمر محتاجا إلى ما هو أكبر وأوسع انتشارا. فكان الرأي أن تنشأ أجيال متعاقبة من (تلاميذ المدارس) في البلاد يرتبطون ارتباطا وثيقا بهذا التحوّل عن طريق تفريغهم تفريغا كاملا من ماضيهم كلّه مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعيا وثقافيا ولغويا ومع ملئ هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون = ولكنها فنونهم هم وآدابهم هم وتاريخهم هم ولغاتهم هم أعني الغزاة.

وقد تولى نظام (دنلوب) تأسيس ذلك في المدارس المصرية مع مئات من مدارس الجاليات التي يتكاثر على الأيام عدد من تضمّ من أبناء المصريين وبناتهم. وقد كان ما أراد الغزاة ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمرا على ما أرادوا بل زاد بشاعة وعمقا في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي بظهور دعوات مختلفة كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية وأشباه ذلك في الصحافة والكتب المؤلفة. لأنّ تفريغ الأجيال من ماضيها المتدفّق في دمائها مرتبطا بالعربية والإسلام يحتاج إلى ملئ بماض آخر يغطّي عليه فجاؤوا بماض بائد مغرق في القدم والغموض ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحيّ الذي يوشك أن يتمزّق ويختنق بالتفريغ المتواصل.

في ظلّ هذا التفريغ المتواصل وهذا التمزيق للعلائق وهذه الكثرة التي تخرج مفرّغة أو شبه مفرّغة إلى (البعثات) وهذا التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي المضطرب وهذا التغليب المتعمّد للثقافة الغازية واللغات الغازية بلا مقابل في النفوس من ثقافة ماضية حيّة حياة ما وباقية على تماسكها وتكاملها = في ظل هذا كلّه انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشا غير واضح المعالم ولكنه يقوم على أصل واحد في جوهره هو ملئ الفراغ بما يناسب آدابا وفنونا غازية كانت قد ملأت بعض هذا الفراغ فهي تحدث في النفوس تطلّعا إلى زاد جديد منها.

فالمسرح مثلا وكان له شأن أيّ شأن يعتمد اعتمادا واضحا على المسرح الأروبي في تكوينه كلّه. وأيسر سبيل كان إلى إمداده بمادّته هو (السطو) على مؤلفات المسرح الأوربي مسلوخة يعاد تكوينها بألفاظ عربية أو عامية على الأصحّ ودون إشارة إلى هذا (السطو) وكانوا يسمّون هذا حياء ومكرا: (التمصير) بيد أنه عبث مجرّد وسطو لا رقيب عليه. أمّا الكتاب الجادون فكان أكثرهم يعتمد على تلخيص نتاج الفكر الأوربي في الأدب والفلسفة والإجتماع والسياسة تلخيصا ما وإن كان أكثره خطفا وسطوا ينسبه الكاتب إلى نفسه بلا رقيب ولا محاسب.

والقصة أيضا كانت ضربا من (السطو) والتقليد تحوّر فيها الأسماء والأماكن والوقائع ثمّ ترقّع بأفكار مسلوبة مختطفة ثمّ توزّع توزيعا ماهرا على فصولها المختلفة حتى تضمن لأصحابنا إخفاء معالم السطو والانتهاب والتقليد [وهذا أمر لم يزل مستمرّا بقوّة إلى يومنا هذا].

وبالثرثرة واللجاجة في الصحف والمجلات صارت هذه الظاهرة مألوفة لا غبار عليها. وزادها رسوخا إثارة قضية كثيرة الضجيج محفوفة بألفاظ مبهمة مغرية تقبلها النفوس بلا ممانعة وهي قضية (القديم) و (الجديد) و (التجديد) و (ثقافة العصر) .. والنظر في حقيقة هذه القضية يفضي إلى شيئين ظاهرين: ميل ظاهر إلى رفض (القديم) والإستهانة به دون أن يكون الرافض ملما إلماما ما بحقيقة هذا (القديم) = وميل سافر إلى الغلوّ في شأن (الجديد) دون أن يكون صاحبه متميّزا في نفسه تميزا صحيحا بأنه (جدّد) تجديدا نابعا من نفسه وصادرا عن ثقافة متكاملة متماسكة بل كل ما يميّزه أنّ الله قد يسّر له الإطّلاع على آداب وفنون وأفكار تعب أصحابها في الوصول إليها من خلال ثقافتهم المتماسكة المتكاملة وكفى الله المؤمنين القتال

هذه خطوط من صورة لجانب من الحركة الأدبية والثقافية في ذلك العهد وأكثرها باق إلى يومنا هذا ومقبول أيضا بلا استبشاع له.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير