تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أهذا؟ أم أنّ (الجديد) و (التجديد) لا يمكن أن يكون مفهوما ذا معنى إلاّ أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حيّة في أنفس أهلها = ثم لا يأتي التجديد إلاّ من متمكّن النشأة في ثقافته متمكّن في لسانه ولغته متذوّق لما هو ناشيء فيه من آداب وفنون وتاريخ مغروس تاريخه في تاريخها وفي عقائدها وفي زمان قوتها وضعفها ومع المتحدّر إليه من خيرها وشرها محسّا بذلك كلّه إحساسا خاليا من الشوائب = ثم لا يكون (التجديد) تجديدا إلاّ من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة المعقّدة التي تنطوي عليها هذه الثقافة وبين رؤية جديدة نافذة حين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه من خلاله يستطيع أن يقطع تشابكا من ناحية ليصله من ناحية أخرى وصلا يجعله أكثر استقامة ووضوحا وأن يحلّ عقدة من طرف ليربطها من طرف آخر ربطا يزيدها قوة ومتانة وسلاسة.

فالتجديد إذن حركة دائبة عمادها الخبرة والتذوق والإحساس المرهف بالخطر عند الإقدام على القطع والوصل وعند التهجم على الحلّ والربط. فإذا فقد هذا كله كان القطع والحلّ سلاحا قاتلا مدمّرا للأمة وثقافتها وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكك والضياع إذ يورث كلّ جيل منها جيلا بعده ما يكون به أشدّ منه حيرة وتفككا وضياعا.

هذه هي العاقبة التي تفرض نفسها فرضا وما أبشعها من عاقبة.

فما ظنّك إذن بالعاقبة إذا كان القطع والحلّ مرادا لذاته وكان مرادا أيضا أن لا يكون معه أو معه أو بعده وصل وربط في داخل التكامل والتماسك الذي يجعل لهذه الثقافة معنى وحياة وحركة؟ = وما ظنك بالعاقبة إذا كان هذا ولم تكن الأفكار (المجددة) إلاّ ترديدا لصياغة غريبة صاغها غريب عن الثقافة منتسب إلى ثقافة غازية مباينة وهو مع ذلك ناقص الأداة لا خيرة له بتشابكها وعقدها ثم هو نفسه لا يضمر لها إلاّ التدمير والاستهانة لغرض راسخ في قرارة النفس؟ = ثم ما ظنّك أيضا بالعاقبة إذا صار (التجديد) عند أصحاب الثقافة أنفسهم لا يزيد على أن يكون (سطو) مجرّدا على هذه الصيغة الغريبة ثم إقحامها إقحاما على ثقافتهم لا لحاجة أدّى إليها النظر والفكر والتدبر بل الهوى وخبّ الظهور من مفرّغ أو من شبيه بالمفرّغ من ثقافته المتكاملة المتماسكة؟ ما أبشع العواقب عندئذ وأبشعها التدهور المستمر

وكذلك كان مقدّرا لجيلنا نحن جيل المدارس المفرّغ أن يتلقى صدمة التدهور الأولى لأنّه نشأ في دوامة دائرة من التحول الإجتماعي والثقافي والسياسي. جئنا في أعقاب حرب الإستعمار الكبرى وهي التي يسميها أصحابها (الحرب العالمية الأولى).

خرج منها (الحلفاء) منصورين وبدأوا من فورهم في تقسيم عالمنا وتبديده وأخذ كلّ مستعمر منهم يشدد قبضته على ما وقع في يده من الغنائم. وبالدهاء والمكر والسطوة جعل يدفع هذا التحوّل دفعا شديدا لكي يتمّ له أن يخضع عالمنا (المتخلف) لحاجات عالمه (المتحضر) وجئنا أيضا في مصر مع الرّجةالعظمى التي أحدثتها ثورة سنة 1919 والتي انتهت بعد قليل بفجيعة مزّقت الأمة تمزيقا مفزعا بفضل الدستور والانتخابات وتعدّد الأحزاب وتكالب كلّ حزب على الظفر بالحكم تحت علم السيادة البريطانية المتحضّرة .. وتبددت نفوسنا وتفتّتت تحت ضغط هذا التحوّل السريع المتمادي المريب المروّع

وفي ظلّ هذا كله كما قلت انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشا غير واضح المعالم .. وأقول (غير واضح المعالم) لأنّ الأساتذة الكبار الذين انتعشت على أيديهم هذه الحركة كانت علائقهم بثقافتهم غير ممزّقة كلّ التمزيق = أما نحن جيل هذه المدارس المفرّغ فقد تمزّقت علائقنا بها كلّ التمزيق فصار ما يكتبه الأساتذة فيما له علاقة بهذه الثقافة باطلا أو كالباطل. فهو لا يقع منا ومن أنفسنا بالموقع الذي ينبغي له من الفهم ومن الإثارة ومن الترغيب في متابعته ومن إعادة النظر في ارتباطنا بتلك الثقافة = بل كان عند كثير من أهل جيلنا غير مفهوم البتة فهو يمرّ عليه مرورا سريعا لا أثر له. أمّا الذي أخذه جيلنا عنهم فهو الإتجاه الغامض إلى المعنى المبهم الذي تتضمّنه كلمة (التجديد) = وإلى هذا الرفض الخفيّ للثقافة التي كان ينبغي أن ننتمي إليها = وإلى الإنحياز الكامل إلى قضايا الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ التي أولع الأساتذة بتلخيصها لنا لكي نلحق بثقافة العصر الذي نعيش فيه وبمناهجه في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير