وقد خالف السلف في هذا المعتقد طائفتان مشهورتان؛ القدرية الثانية والجبرية؛ فأنكرت القدرية الثانية (المعتزلة والزيدية والشيعة الإمامية) عموم المشيئة والخلق؛ وزعموا أن العبد يخلق فعله؛ ولهذا قالوا باختيار العباد اختيارا مطلقا. وهذا المعتقد يناقض الأدلة المذكورة آنفا في مرتبة المشيئة والخلق ويستلزم الوقوع في شرك الربوبية؛ لأن كل عبد بزعمهم مستقل بإيجاد فعله بمعزل عن قدرة الرب ومشيئته؛ ولهذا سماهم السلف بمجوس الأمة لشبه قولهم بمذهب المجوس في القول بالخالقين!
وفي المقابل غلت الجبرية في التعلق بنصوص القدر حتى أنكرت أثر العبد في فعله، وزعمت أنه مع القدر كالشجرة في مهب الريح. وهذا يناقض الشرع والواقع؛ فقد دل الشرع على ثبوت مشيئة العبد وقدرته ووقوع أفعاله الاختيارية تبعا لها، قال تعالى: (((فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا)))، وقال: (((فأتوا حرثكم أنى شئتم)))،ولكنها ليست مشيئة مستقلة وإنما هى تابعة لمشيئة الله تعالى: (((وماتشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)))؛ ولهذا كان الصحيح أن الإنسان مع القدر ليس بمخير كما قالت القدرية وليس بمسير كما قالت الجبرية وإنما هو ميسر؛ فمن كان أهلا للخير يسره الله له بفضله تعالى ورحمته وإلا خذله وحرمه بعدله سبحانه وحكمته. وهذا هو الذي نطقت به النصوص، قال تعالى: (((فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)))، وقالصل1: (ما منكم من نفس منفوسة إلا قد علم الله مكانها من الجنة والنار شقية أم سعيدة. فقال رجل من القوم: يارسول الله أفلا ندع العمل فنتكل على كتابنا فمن كان من أهل السعادة صار إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يعني صار إلى الشقاوة؟ فقال رسول الله صل1: (اعملوا فكل ميسر من كان من أهل السعادة يسر لعملها ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعملها). وقال عمر بن الخطابرض1: (قلت:يارسول الله أرأيت عملنا هذا على أمر قد فُرِغَ منه أم على أمر نستقبله؟ فقال رسول الله صل1: (بل على أمرٍ قد فُرغَ منه). فقال عمر: ففيم العمل؟ فقال رسول الله صل1: (كلا. لا يُنالُ إلا بعمل). فقال عمر رض1 إذن نجتهد).
وكذلك قال سراقة ابن مالكرض1: (فالآن نَجِدُّ، الآن نَجِدُّ، الآن نَجِدُّ).
فلم يفهموا من الإيمان بالقدر تعطيل الأسباب وإنما فهموا الجد والاجتهاد في مباشرتها؛ لأنها من قدر الله تعالى وسنته في خلقه.
وينبغي للمسلم أن يعتصم بالنصوص في دينه عامة وفي الإيمان بالقدر خاصة؛ فإن الضلالات في القدر لا تكاد تنحصر، وبعضها من إرث الجاهلية الأولى؛ كاتخاذ القدر حجة في تعطيل الشرع وتبرير الاستمرار في المعصية، قال تعالى: (((سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا)))،وقال: (((وقالوا لوشاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون)))؛ فذمهم على احتجاجهم بالقدر لتبرير الاستمرار فيما هم فيه من شرك وضلالة، وهكذا كل من اتخذ القدر حجة لدفع الحق أوتبرير ماهو فيه من باطل. ويذكر عن عمر بن الخطاب رض1 أنه أمر بقطع يد سارق فقال يا أمير المؤمنين: سرقت بقدر الله. فقال عمر: ونحن نقطعك بقدر الله!!
وأما ما ثبت من احتجاج آدم على موسى بالقدر، وأنه حجه بذلك فإنما احتج به على مصيبة الخروج من الجنة، والقدر يحتج به في المصائب لا في المعائب. وكذلك فإنه احتج به على الذنب بعد التوبة منه لا لرد الحق أو تبرير الاستمرار في الذنب.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـ[حاتم القرشي]ــــــــ[30 Sep 2010, 08:11 م]ـ
شكر الله لكم شيخنا العزيز هذا الكلام المحرر الموجز الدقيق في تأصيلات نافعة وتفريعات مفيدة في القدر وما وقع فيه من ضلالات وزيغ.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[01 Oct 2010, 06:35 ص]ـ
وينبغي للمسلم أن يعتصم بالنصوص في دينه عامة وفي الإيمان بالقدر خاصة؛ فإن الضلالات في القدر لا تكاد تنحصر.
جزاك الله خيراً وشكر لك فقد أوجزتَ وأَبَنْتَ غاية البيان.
نسأل الله أن يرزقنا الانقياد والتسليم والإيمان بقضاء الله وقدره على الوجه الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
ـ[طارق عبدالله]ــــــــ[01 Oct 2010, 01:54 م]ـ
جزاكم الله خيراً وحقاً إن في هذا القدر من البيان بيان لمن أراده وعصمة لمن استعصم وكفاية لمن أراد الحق والنجاة بارك الله بكم وبعلمكم أجمعين