وعُلِّل ذلك بأن الفعل ((تَفعَلُوا)) جُزم بـ" لم " لأنها واجبة الإعمال، مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول، ولأنها لما صيَّرته ماضيًا صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، فكأنه قال: فإن تركتم الفعل، ولذلك ساغ اجتماعهما.
وقيل أيضًا: وجزم الفعل بـ" لم "، لا بـ" إن "، لأن " لم " قد ثبت أنها عاملة قبل دخول " إن " بلا خلاف.
وذكر الخضري في حاشيته:
(لا تنازع بين حرفين، ولا حرف وغيره.
وأما نحو ((فإن لم تفعلوا))، فـ " لم " جزمت الفعل، وهما " أي: لم والفعل " في محل جزم بـ" إن ".) انتهى كلامه.
أما على قول: إنَّ " ما " اسم شرط جازم، فما هو موقعها الإعرابي من البيت؟
يقولون: إن كان فعل الشرط يطلب مفعولاً به، فهي منصوبة محلاً على أنها مفعولٌ به له.
وإن كان لازمًا أو متعدِّيًا استوفى مفعولَه فهي مرفوعة محلاً على أنها مبتدأ.
ففي مثالنا: الفعل قد استوفى متطلباته، فالظاهر أنَّ " ما " في محلِّ رفع مبتدأ، والله أعلم.
أستاذي الكريم / أبا أيمن:
زادك الله هدًى ونورًا، لاحظتُ أنَّ استفساراتك الرائعة منصبَّة حول " ما " المصدرية الظرفية.
وإن شاء الله، أبذل ما بوسعي لإزالة الغموض التي التفَّ حولها، مع علمي القاطع أنَّ معلوماتي لا تَقْوى على مواجهة قوَّة بيانك.
قد لاحظتُ أنك ربطتَ العامل الزمني بين الفعل " تحسبنَّ " وبين تقدير مصدر " ما ".
وقبل الإجابة أحبُّ أن أتقوَّى على المواجهة الحتميَّة ببعض الفوائد الضرورية.
" ما " المصدرية الظرفية، وإن شئتَ فقل: المصدرية الزمانية:
شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسنًا، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان.
ولعلَّها تكون جليَّةَ المعنى في قوله تعالى في سورة مريم: ((ما دمتُ حيًّا))، أصله:" مدة دوامي حيًّا "، فحذف الظرف وخلفته " ما " وصلتها.
فظهر لك من هذا أنَّ قولهم: " ما " مصدرية ظرفية، معناه: أنها مصدرية أصالة وتأويلا، وظرفية نيابة وتقديرا.
والآن يمكننا أن ننطلق إلى شواهد أخرى لتتبيَّن معها تقدير مصدرية " ما ".
قال الله تعالى في سورة البقرة: ((لا جُناحَ عليكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ))
قيل: " ما " مصدرية ظرفية بتقدير أي: مدّة عدم مسيسكم، أو: زمان عدم المسيس.
وقال بعضهم: " ما " شرطية، ثم قدَّرها بـ" إن ".
وقال - سبحانه وتعالى – في سورة التوبة ((فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ))
قيل: الظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم.
فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم.
ويجوز أن تكون شرطية، وحينئذٍ ففي محلها وجهان:
أولهما: النصب على الظرفية الزمانية، وهذا القول هو قول ابن مالكٍ – رحمه الله -، حيث يرى أنَّ " ما " الشرطية تكون زمانية، وغير زمانية.
وتقدير هذا الوجه، أي: زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم.
وثانيهما: أنها في موضع رفع بالابتداء، و" فاستقيموا لهم " الفاء جواب الشرط.
فكان التقدير: فأي وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم.
وإنما جوَّز أن تكون شرطية لوجود الفاء في " فاستقيموا "، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء.
فتلاحظ من هذين الشاهدين تداخل المعاني، وبالإمكان تقدير ": ما " على عِدَّة وجوه، وكلها صحيحة.
أما بالنسبة لتقدير البيت على القول بأن " ما " مصدرية ظرفية:
لا تحسبنَّ أن العلم وحده ينفع صاحبه زمن عدم تحلِّيه بالأخلاق
هذا هو تقدير المنطوق، وتقدير المفهوم: أنه ينفعه حال تحلِّيه بالأخلاق.
وقولك: (حسبت الأمر كذا، فهو شيء لحظي لمدة معينة ومحدودة، تغير الرأي بعدها،
وعند الجزم ينتفي الأمر ويصبح عكسه أَبَدِي)
لم أستطع فهم هذه العبارة، ولكن لا أظنُّ أنَّ الحسبان شيءٌ لحظي، بل إنه غير محدودٍ بوقت، فقد ينقلب جزمًا بعد فترة إذا اعتقده صاحبه، وقد يتخلَّى عنه، أو يستمرُّ على ظنَّه.
قال الله تعالى في سورة النور: ((يَحْسَبُهُ الظَّمْئَانُ مَاءً))، فيستمرُّ على ظنِّه حتى إذا تحمَّل التعب ومشقَّة العناء ووصل عنده لم يجد شيئًا، فينقلب ظنُّه إلى حقيقةٍ مخالفةٍ لِما كان عليه.
¥