وكان الأولى أن يقول: ومكاني - أي بعد دفنه – بعيد جدا، ولا حاجة بأن يستخدم صيغة الاستفهام " وأين مكان .. ".
هذا هو السياق المفترض، كما أتصورُّه.
وإذا كانت جملة " وهم يدفنونني " استئنافية، فهل كان لا بدَّ لـ" مالك " أن يستخدم ضميرًا في جملة " وهم يدفنونني " يعود على فاعل " يقولون "؟
لم يكن بحاجة له، بل كان بإمكانه أن يقول: يقولون لا تبعد، ثم قاموا بدفني، أو ما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: لمَ لا نعتبر عدم وجود جملة " وهم يدفنونني " ابتداءً؟
قلتُ: لا يمكن إلغاؤها من الكلام، إذ لا يمكن أن يكون لجملة " وأين مكان البعد إلا مكانيا " معنى.
فجملة " وهم يدفنونني " أشارت إلى مكانه، الذي قال عنه بعدها: " وأين مكان البعد إلا مكانيا "
فإن قال قائل " أليس الحال فضلة؟ فإلغاؤها لا يغير معنى الجملة.
قلتُ: قد أجابَ عن ذلك أستاذي الأمجد / بديع.
فالغالب في الحال أن يكون فضلة، وفي بعض الأحيان يكون بمنزلة العمدة في إتمام المعنى الأساسي للجملة، أو في منع فساده:
فالأولى: كالحال التي تسدَّ مسدَّ الخبر، في نحو: ضربيَ العبدَ مسيئًا.، فإن المعنى الأساسي هنا لا يتمُّ إلاَّ بذكر الحال.
وكالحال في قوله تعالى: ((وإذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسَالَى)) سورة النساء 142.
وقوله عزَّ وجلَّ: ((وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)) سورة الشعراء 130.
والثانية: وهي الحال التي يفسد معنى الجملة بحذفها، نحو قوله – عزَّ في علاه -: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمواتِ وَالأرْضَ وَمَا بَينَهُمَا لاعِبينَ)) سورة الدخان 38.
وأقول: ومعنى كونه فضلة: أي بالنسبة للجملة التي اصطلح عليها علماء النحو، أما بالنسبة للمعنى، فالحال وغيره أساسيٌّ في الجملة، ولا تقوم المعاني واضحةً إلا بكامل التركيب.
بقي النظر في المعني الذي أحطته بالشبهات:
وهو قولك: (هذا المعنى هو أنهم يفعلون به فعلين متناقضين، الأول: الدعاء بعدم البعد، والثاني: وضعه في مكان البعد (الدفن). وعلى هذا المعنى فقد تساوت قوة الفعلين وأهميتهما وهذا التساوي في القوة لا يمكن أن يجعل أحدهما فضلة / حالا.)
أقول: سأؤجل إجابة هذا السؤال حتى أرى الحاجة قد غدت به مُلحَّة.
وقولك: (هذا وقد ضربت مثلا بالجملة التي ختمت بها ردي السابق وهي: تقول لي لا تتألم، وأنت تضربني، كيف لا أتألم؟!! وقد أملت منها أن توضح ما أعنيه.)
أقول: قد صرفتُ النظر عن هذا المثال لكون القياس عليه غير صحيح، إذ أنَّ المثال لا ينطبق على بيت مالك، بل هناك فرق من وجهين، وسأترك لك تدقيق النظر فيه لتتبين بنفسك.
والله أعلم.
ختامًا، فقد والله سعدت بصحبتك، فصحبتك واحةٌ وارفة الظلال، ساحرة الجمال، وكأنها نسيج من الخيال، فأكرم وأنعم بك.
دمتَ بكلِّ الودِّ والتقدير
مع أعذب وأرق التحايا
ـ[الكاتب1]ــــــــ[30 - 08 - 2004, 12:35 ص]ـ
أخوتي الكرام أناملي استحيت أن تخط كلمة بعد كلماتكم الرائعة وتحليلاتكم الأدبية فما عساني أكتب؟ خاصة
وأنّ أخي" البديع الرائع، يكتب والكرى يخاتل جفنيه. فكيف به إذا كان في قمة نشاطه! ماشاء الله تبارك
الله.
ولا أظن أخي حازم بارك الله فيه ببعيد عن أسلوبه وروعة تحليله بارك الله فيه وأعانه على تحمل مسؤليته الجديد
في الإشراف، وينافسهما أخونا المبدع " ديك الجن " في تصويره للمعاني.
أخي " ديك الجن "
أنا مع أخي بديع الزمان في كل ما قال، ولا أظن للجملة " وهم يدفونني " موقعا غير الحال فالمعنى وسبك الجملة يقرّان ذلك، ولعل النهي في قوله " لاتبعد " ليس على حقيقته بل خرج إلى معنى بلاغي وهو التصبير والتسلية فهم يصبرونه ويسلونه
ـ[ديك الجن]ــــــــ[31 - 08 - 2004, 05:05 ص]ـ
طاب بكم مسرانا يا رفاق
ليلنا في أعذبه، وحيثنا في أطيبه
غمرتموني بفضل أنتم أهله، وأفدتموني بعلم أنتم كبراؤه.
ترتيب الألفاظ ـ كما يقول الجرجاني ـ على حسب ترتيب المعاني في النفس، وقد أشار أخي بديع الزمان إلى ذلك بقوله " لو أعربنا الجملة مستأنفة أو ابتدائية أو معترضة فذلك ـ في نظري ـ لا ينسجم مع الغرض البلاغي والسياق المعنوي الذي وردت فيه أي أننا بذلك سنسلخها من السياق فتغدو بعيدة عنه مقحمة فيه0"
¥