وليت بديع الزمان يذكر الغرض البلاغي والسياق المعنوي في البيت، إذ أن الإعراب تبع لهذا الغرض ولذياك السياق، وقد اجتهدت في عرضي لهما آنفا، وقلت فيهما ما أظنه صائبا.
أما أن يكون الحال عمدة أو لا يكون في الجملة فهذه معلومة متفق عليها عن الحال وحالاته وليست إعرابا لـ (وهم يدفنونني)، وإذا كانت (وهم يدفنونني) حالا ضرورية وتفيد معنى أساسيا بحيث لا يمكن حذفها مثل الحال (لاعبين) في الآية الكريمة فكيف أمكن للجملة أن يتم معناها بدونها؟ في حين لا يتم معنى الآية الكريمة إلا بذكر (لاعبين)
وسؤالي للإخوان الذي يعربونها حالا .. هل هي حال ضرورية وعمدة وأساسية أم أنها حال غير ضرورية يمكن الاستغناء عنها ويتم معنى الجملة الأساسية بدونها؟
أخي بديع الزمان: تقول: " يبدو لي ـ والله أعلم ـ أنّ الإشكال النّاشئ عند أخينا الفاضل ديك الجنّ في إعراب جملة (وهم يدفنوني) حالا صرفه إيّاها إلى أن يكون صاحبها فاعل (تبعد) وليس كذلك "
أنا أصلا لا أعربها حالا فكيف أفكر في صاحبها وضمير عائد إليه؟ أما الواو والضمير في (وهم) فهي تشبه شكلا وصورة الضمير العائد لصاحب الحال لكن الغرض البلاغي يختلف هنا ويخرجها ـ في نظري ـ من أن تكون واو حال وضمير ربط.
إن كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بمعناها الجزئي وبمكوناتها على هذا النحو:
ـ الأولى: فعل الدعاء له
ـ الثانية: هم يدفنونه (فعل الدفن = وضعه في مكان البعد)
ـ الثالثة: إنكار وتعجب واستغراب (وأين مكان البعد إلا مكانيا)
إن مأ اقول عنه استغراب وتعجب وإنكار يعود للجملتين الأوليين، فهما ضروريتان لنشوء مثل هذا الاستغراب، ولو كان الجملة الثانية (وهم يدفنونني) حالا يمكن الاستغناء عنها ويمكن بقاؤها فما قيمة الاستغراب والاستفهام في الجملة الثالثة؟
أخي حازم:
تقول: " أنت تربط بين جملة " لا تبعد "، وجملة " وأين مكان البعد إلا مكانيا " لتصوير الاستغراب، وفي نفس الوقت لا تريد أن تكون الجملة الواقعة بينهما " وهم يدفنونني " حالية. فكيف يكون هذا؟؟؟ "
وأقول: وهل لا بد لأي جملة توسطت بين جملتين أن تكون حالا؟ كيف يكون هذا؟ ثم إني لا أرى الاستغراب ناشئا من الجملة الأولى وحدها بل من الجملتين معا وهذا ما سبق لي قوله.
وما ألطف تعبيرك إذا تقول: " تخيَّل أنهم قالوا له في وقتٍ من الأوقات: " لا تبعد "، ثم بعد ذلك دفنوه، لأن جملة " وهم يدفنونني " – على زعمك – ليست حالية، فهل يصحُّ أن يقول بعد ذلك: " وأين مكان البعد إلا مكانيا " "
كأنك تريد أن تقول إن جملة (وهم يدفنونني) تمت في نفس الوقت الذي تم فيه قولهم " لا تبعد ". إنك تتقدم بنا خطوة جميلة في مسرانا العذب الممتع.
حسنا، أولا: نحن ليس أمامنا إلا بيت مالك، وبيت مالك للأسف لم يوضح متى قالوا " لا تبعد " ومتى دفنوه! لكننا لن نختلف أن الفعلين وقعا معا في وقت واحد، هكذا أفهمنا مالك ببيانه، لكن هل كل فعلين يقعان معا يجب أن يكون ثانيهما حالا لصاحب الأول؟
إن الرابط الزمني بين الحدثين هو الذي يربط بقوة بين الجمل الثلاث.
وتقول " وإذا كانت جملة " وهم يدفنونني " استئنافية، فهل كان لا بدَّ لـ" مالك " أن يستخدم ضميرًا في جملة " وهم يدفنونني " يعود على فاعل " يقولون "؟ "
وأقول: اختار مالك كلامه على حسب معناه وهو حر فيما اختار، وهل استخدامه للضمير (هم) يعني أن مالكا أراد أن يؤكد لنا أنه أرادها حالا؟ وهل الجملة الاستئنافيه يجب أن تخلو من أي ضمير يعود على ما في جملة قبلها؟ فإذا خلت من هذا الضمير لزمنا أن نعربها أي إعراب سوى أن تكون استئنافية؟
ثم إني أوافقك أنه لا يليق إبعاد وإلغاء جملة " وهم يدفنونني " من الكلام لأنها ضرورية. ضرورية لأداء (الغرض البلاغي) الذي أراده لها مالك.، وقد قلت رأيي في هذا الغرض البلاغي جاعلا كل أجزاء البيت (الجمل الثلاث) ضرورية بدرجة متساوية لأداء هذا الغرض البلاغي.
أما تأجيلك للجواب عن رأيي في مسألة تساوي الحدثين في القوة (الدعاء والدفن)، فلا عليك. متى رأيت الرغبة ملحة فقل ما تراه، وأما الجملة التي أوردتها أنا لأوضح بها فكرتي فهي لا تعدو كونها مثال توضيح لا استنساخ لجملة مالك، بل هي تكاد تختصر كلامي كله في تبيان ما أريد.
أخي حازم: قال النحاة أن الحال هو ما يصف هيئة الفاعل أو المفعول وقت وقوع الفعل. والفعل هنا هو (يقولون) والحال ـ كما تراود أنت ـ هو (وهم يدفنونني) وليتك تصور لي حالة تلبسهم بالدفن وقت (يقولون لا تبعد).
ثم كان يمكن لمالك أن يقول: (يقولون لا تبعد وهم يبكون أو هم يألمون) لكن مالكا اختار (وهم يدفنونني) والغرض البلاغي في اختياره لـ (يدفنونني) بدل أي اختيار آخر هو ما يحدد إعراب الجملة.
ما ألطف ـ يا حازم ـ تأنيك وتأتيك لما تراود، وما أجمل وأوضح بيانك لما تقصد، وما زال في الليل متسع لحدائك الشيق، أنت الرفيق الذي لا يشقى به رفيقه ولا يضل طريقه، وقل لصاحبك لا تبك عينه وإن طالت الليالي.
أخي النحوي الصغير:
عفا الله عنك وعني: إن كنت توافق حازما على رأيه فكريم وافق كريما وقد أويتَ إلى ركن شديد.
لو كنت أوافقكم أن (وهم يدفنونني) حال ما بثثت همي بين يديكم ولا طرقت بها ناديكم. على أني أتمنى أن لا ينتهي بي حديثكم، واشهد الله أنني أنست بكم وبددت بكم وحشة غربة وكربة أبعدتني عن وطني ورمت بي في بلاد فيها الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان.
ألا فشكرا لك ثم شكرا.
¥