أقول: بلى، لازلتَ متردِّدًا في أقوالك مع الجملة محلِّ النقاش، " وهم يدفنونني "، ففي بداية حديثك عن الذين استَشهدوا بالآية الكريمة ((وما بينهما لاعِبين))، قلتَ إنَّ من يقول:" بضروريتها مردود بما رأينا من إمكان حذفها وبقاء المعنى كاملا (يقولون لا تبعد، وأين مكان البعد إلا مكانيا ".
وقلتَ في موضع آخر لاحقًا: " أنا الذي أقول عنها إنها جملة جديدة، وإنها تساوي في الأهمية الجملة الأولى وإنه لا يمكن الاستغناء عنها؟ "
فيا للعجب من التردُّد في الرأي!!، وقد طلبتُ منك مرارًا أن تفصح عن رأيٍ واحدٍ فلا تَحيد عنه.
وعجبتُ من قولك: " بما رأينا من إمكان حذفها وبقاء المعنى كاملا (يقولون لا تبعد، وأين مكان البعد إلا مكانيا) "
كيف ساغ لك تَقبُّل الشطر بدون " وهم يدفنونني "؟
هل يمكن أن يُتَوصَّل إلى فهم المعنى كاملاً – كما زعمتَ – بدونها؟
أقول: إنَّ مَن يقول بهذا لا يمكن أن يكون ذا رأيٍ، ولا يمكن أن يكونَ فهمُه صحيحًا.
كيف ساغَ لمالكٍ أن يقول: " وأين مكان البعد إلا مكانيا؟ "، إلاَّ بعد أن مهَّد لها بقوله: " وهم يدفنونني "، ومنها عُلِمَ أنه يقصد بقوله: " وأين مكان البعد إلا مكانيا؟ " مكان القبر.
وبدون " وهم يدفنونني " لا يمكن أن نعلم ما المقصود بمكانه البعيد.
أفبعد هذا لا زلتَ ترَى إمكانية حذفها وبقاء المعنى كاملاً؟
أرأيتَ أنه لا زالت هناكَ حلَقةٌ مفقودةٌ لم تَجدها إلى الآن.
فكيف تستميت مدافعًا عن رأيٍ شاذٍّ وأنتَ لا زلتَ تجهلُ تركيبَ الجمل الثلاث.
هل استطعتَ بشجاعة أن تجيب عن سؤالي السابق:
" ما إعراب جملة " وهم يدفنونني " لو أنهم قالوا له: " لا تَقنطْ من رحمةِ الله " بدلاً من " لا تَبعدْ ".
هل فكرَّتَ في الإجابة عن جملة " ولم تَكثرِ القَتلَى بها حينَ سُلَّتِ " في بيت الفرزدق.
أتخشى الانزلاق، أوَ تظنُّ أنَّ الأمر بيننا هو محاولة كلِّ واحدٍ منَّا أن يُوقِع يصاحبه؟!
كلاَّ – والله -، ليس هذا هدفي، وإنما كان هدفي – ابتداءً – أن أجد طريقًا مناسبًا للوصول بك إلى الإعراب الصحيح الذي أراه، والذي وافقني عليه مَن أدلَى برأيه حول هذا الموضوع.
ولكن – لا بأس - دعنا – يا صديقي - نستأنف رحلتنا، فقد اخترنا الرفقة، ولا بدَّ أن نُكمل السير حتى النهاية، لا مناصَ من ذلك، وإني أتشرَّف بك رفيقًا مُسلِّيًا وصاحبًا مؤانسًا، وأديبًا لامعًا، وذا عِلمٍ جمٍّ، حتَّى وإنِ اختلفتْ آراؤنا، وتباينت وِجهاتنا.
قلتَ: (وما الذي يمنع أن يجتمع كل ذلك وأكثر منه في جملة واحدة ألا ترى أنَّ أنَّةً واحدةً من مريض تحمل معنى التوجُّع والحسرة وإظهار الضعف، وإظهار الألم وأكثر؟)
أقول: كيف جاز لك أن تقيس الجملة " وأين مكان البعد إلا مكانيا؟ " بأنَّةِ المريض؟
وهل " أنَّةُ المريض " تُعدُّ كلامًا؟
أنَّةُ المريض، ولغةُ الإشارة، والتصفيق، ولغةُ العيون في قول الشاعر:
وتَعطَّلتْ لغةُ الكلامِ وخاطبتْ & عَيْنَيَّ في لغةِ الهَوَى عَيْناكِ
كلُّ هذا لا يُعَدُّ كلامًا، باتفاقِ العلماء، قال ابنُ مالكٍ – رحمه الله -:
كلامُنا لَفظٌ مُفيدٌ كاسْتَقمْ & واسمٌ وفِعلٌ ثمَّ حرفٌ الكَلِمْ
ومع ذلك، سأجيبك عن مثالك، نعم – أستاذي الكريم -، قد يحمل التعبير بالكلمة أكثر من معنىً في وقتٍ واحد، بل ويمكن أن تختلف الآراء على تفسير كلمة ما على عِدَّة أقوال.
لكن كلمة صاحبنا، " وأين مكان البعد إلا مكانيا؟ "، ليست من هذا النوع، فلا زلتُ أقول: إنها إنشائيةُ المَبنَى، خَبريةُ المعنى، ولا توحي بالتعجُّب والاستغراب.
وأنَّى لِرجلٍ قد تيقَّن من موته
ولمَّا تراءَت عندَ مرو مَنيَّتي & وحلَّ بها جسمي " وحانت وفاتيا "
وبدأ يعدُّ له العدَّة
أقيما عليَّ اليوم أو بعض ليلةٍ & ولا تعجلاني قد تبيَّن ما بيا
وقوما إذا ما استُلَّ روحي فهيِّئَا & ليَ السدر والأكفان ثم ابكيا ليا
ولا تحسداني بارك الله فيكما& من الأرض ذات العرض أن تُوسَّعا ليا
وخُطَّا بأطراف الأسنَّةِ مضجعي & ورُدَّا على عينيَّ فضلَ رِدَائيا
أنَّى له أن يستغرب ويتعجَّب من مكانه الذي سيؤول إليه؟
وأما قولك: (أما حديثك عن جملتي التي قاربتُ بها لمعناي واعتراضك عليها، فسأؤجل الكلام على قولك فيها حتى أرى الحاجة غدت ملحة (!
أقول: لا عليك يا صديقي، أجَّل كلامك عنها إلى أن تجد الوقت مناسبًا، أو إذا ضاقت بك السُّبُل، ولا أظنُّ أنَّ مثلَك قد تضيق به، أو عندما نقترب من نهاية رحلتنا.
أخيرًا، أرجو الرجوع إلى بيت الفرزدق وتحديد نوع الجملة المطلوبة فيه، كما أرجو النظر في البيتين التاليين، وهل الاستفهام فيهما بمعنًى واحد:
أتَجْعَلُ ذا الكِيرِ مِن مالكٍ & وأينَ سُهَيلُ مِن الفَرْقَدِ؟
عَن يَمَيني وعَن شِمالي وقُدَّا & مِي وخَلْفي، فأينَ عَنهُ أحِيدُ؟
ختامًا، أستاذي العزيز: لازلتَ بحرفِك آسِرًا، ولازلتُ عن مَضارعتك قاصِرًا.
كما أني لازلتُ أرَى الطريق طويلا، ونفسي عليلة، وحُجَّتي هَزيلة، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله.
دمتَ سالمًا مع كلِّ الودِّ والتقدير
ولك أعذب وعاطر التحية
¥