وأمَّا اختلافهما في النفي والإيجاب، فلا يخرجهما عن البدل؛ لأنه ليس من شرط البدل أن يُعَدَّ في مَوضع الأول إذا قُدِّر زواله، بل من شرط البدل أن يُعمَل فيه ما يُعمَل في الأول في موضعه الذي رُتِّب فيه، وقد يقع في العطف والصفة نحو ذلك.
وهو أن يكونَ الأولُ موجبًا، والثاني منفيًا.
فالعطف نحو: " جاءني زيدٌ لا عمرٌو "، ومررتُ بزيدٍ لا عمرٍو "، " ورأيتُ زيدًا لا عمرًا "، فالثاني معطوف على الأول، وهما يختلفان في المعنى من حيثُ النفي والإثبات.
وكذلك تقول في الصفة: " مررتُ برجلٍ لا كريمٍ ولا عالمٍ.
فـ" كريمٍ " مخفوض لأنه نعتٌ لـ" رجلٍ "، وأحدهما موجب والآخرُ منفي.
وإذا جاز ذلك في العطفِ والنعتِ، جاز مثلُه في البدل؛ لأنه مثلُهما من حيثُ هو تابع.
فإن قيل: فلمَ لم يجز البدل في الإيجاب كما جاز في النفي؟
فيقال: " جاءني القومُ إلاَّ زيدٌ "، كما قيل في طرف النفي، وإلاَّ فما الفرق بينهما؟
قيل: لأنَّ عبرةَ البدل أن يحلَّ محلَّ المُبدل منه، وفي المنفي يصحُّ حذفُ الاسم المُبدل منه قبل " إلاَّ "، ولا يصحُّ ذلك في الموجب، فلا يقال: " أتاني إلاَّ زيدٌ "، وإنما كان ذلك من قبل أنَّ النفيَ الذي قبل " إلاَّ " قد وقع على ما لا يجوز إثباته من الأشياء المتضادَّة، ألا ترَى أنَّا إذا قلنا: " ما أتاني أحدٌ "، كنَّا قد نفينا إتيان كل واحد على سبيل الاجتماع والافتراق، ولو أخذنا نثبت إتيانهم على هذا الحدِّ لكان محالاً، لأنكَّ توجب لهم الإتيان على هذه الأحوال المتضادَّة، والذي يؤيِّد عندك ذلك أنَّك تقول: " ما زيدٌ إلاَّ قائمٌ "، نفيتَ عنه القعودَ والاضطجاع، وأثبتَّ له القيام، ولا تقول: " زيدٌ إلاَّ قائمٌ "، فتوجب له كلَّ حالٍ إلاَّ القيام، إذ من المحال اجتماع القعود والاضطجاع، فلذلك ساغ البدل في المنفي ولم يَسُغ في الموجب) انتهى.
المسألة الثالثة: (هل في الحديث طول فصل بين المستثنى والمستثنى منه؟)
طول الفصل يقدَّر حسب المقام.
فقد يكون بكلمة واحدة، وذلك في صدر صلة الموصول، نحو:
" جاء الذي قائمٌ "، " الذي ": اسم موصول، " قائم " خبر مبتدأ محذوف تقديره " هو "، أي: " هو قائم ".
الصلة كلمة واحدة: " قائم " إذًا لا تُحذَف كلمة " هو "؛ لأنَّ الصلة غير طويلة، فيجب أن يقال: " جاء الذي هو قائمٌ ".
فإذا قلتَ: " جاء الذي راكبٌ بعيرَه "، قلنا: الصلة طويلة، فيجوز أن يقال: " جاء الذي هو راكبٌ بعيرَه "
فالضابط هنا: إذا كان كلمة لها متعلَّق، فهي طويلة.
أما الفصل بين المستثنى منه، والمستثنى، فلم أجد له ضابطًا، وذلك فحسب علمي القاصر، إلاَّ ما حُكِيَ عن ابن مالكٍ في " الهمع " أنه اختار النصب في ما يأتي للتراخي.
ما ثبتَ أحدٌ في الحربِ ثَباتًا نفعَ النَّاسَ إلاَّ زيدًا.
ولا تنزل على أحدٍ من بني تميمٍ إن وافيتهم إلا قيسًا.
وعُلِّلَ ذلك لضعف التشاكل بالبدل لطول الفصل بين البدل والمبدل منه.
فإذا تأمَّلنا الشاهدين، وجدنا الفصل قد حصل بجملة بين المستثنى منه والمستثنى.
لذلك أرَى – والله أعلم – أنه لا يوجد طول فصلٍ في الحديث، وذلك لأنَّ قوله: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين "
لم تنشأ فيه جملة فاصلة، بل كل ما هنالك كلمة " رمضان " التي هي معمول الفعل " تقدموا "، ثم كلمة " بصوم يوم "، الجار مع مجروره متعلِّق بالفعل " تقدموا "، وما أضيفَ إليه تابع له، لأنَّ المضاف والمضاف إليه كلمة واحدة، والله أعلم.
أخيرًا، بقيَ النظرُ في المسألة من زاوية أخرَى، وهي: هل يمكن أن تُعرب على وجهٍ آخر؟
أقول: لم يتعرَّض لإعرابها شُرَّاح كتب الأحاديث – فيما أعلم -، ولكن ما زال الحكم على الاتصال في المستثنى أو الانفصال، محل خلافٍ بين العلماء في مسائل كثيرة.
وسأستشهد بدليلين من القرآن، ثمَّ أبني عليهما تصوُّري للمسألة.
ذكر العلاَّمة أبو شامة، في " إبراز المعاني ":
[قوله تعالى في سورة هود: {ولا يلتفتْ منكم أحدٌ إلا امرأتك}، قُرئَ برفع " امرأتُك " ونصبها، فالمستثنى هنا من غير موجب، لذلك جرَى فيه الوجهان: النصب والرفع.
¥