نعم، أستاذي الْهُمام، ما أفدتنا به عن مذهب " أبي البقاء العكبري، هو الصواب، وهو ما يشهدُ به كتابه، فجزاكم الله خير الجزاء على ما تفضَّلتم به.
أما المسألة التي بين أيدينا، وهي قول الحقِّ – سبحانه وتعالى -: {ومِنَ النَّاسِ مَن يقولُ} الآية.
ذهب العكبري والشوكاني إلى أن " مَن " نكرة موصوفة.
وفصَّل الزمخشري في " كشَّافه " القول، فقال:
(و" مَن " في {مَن يَقُولُ} موصوفة، كأنه قيل: ومن الناس ناسٌ يقولون كذا، كقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ} "الأحزاب: 25" إن جعلت اللام للجنس، وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} "التوبة: 61") انتهى
وذهب البيضاوي إلى أنَّ "مَن " موصولة، وهو اختيار أبي حيَّان، وظاهر كلام ابن كثير.
ورجَّح ابنُ هشامٍ – رحمه الله – هذا القول في " مُغنيه "، فقال:
(وقال تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَقولُ ءَامنَّا بِاللهِ} " البقرة 8، فجزم جماعة بأنها موصوفة، وهو بعيد، لقلَّة استعمالها، وآخرون بأنها موصولة} انتهى
وقال أبو حيَّان في " البحر ":
(وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلاَّ في موضع يختص بالنكرة، كقول سويد بن أبي كاهل:
ربَّ مَن أنضَجْتُ غَيظًا صدرَه * لو تمنَّى لي موتًا لم يُطَعْ) انتهى
وجاء في " المغني ":
فكفَى بنا فضلاً على مَن غَيرنا * حُبُّ النبيِّ محمَّدٍ إيَّانا
ويُروى برفع " غير "، فيحتمل أنَّ " مَن " على حالها، ويحتمل الموصولية، وعليهما فالتقدير: على مَن هو غَيرُنا، والجملة صفة أو صلة، وقال الفرزدق:
إنِّي وإيَّاكَ إذْ حلَّتْ بِأرْحُلِنا * كمَنْ بَواديهِ بَعدْ الْمَحْلِ مَمطُورِ
أي: كشخص ممطورٍ بواديه
وزعم الكسائيُّ أنها لا تكون نكرة إلاَّ في موضع يخص النكرات، وردَّ بهذين البيتين، فخرجهما على الزيادة، وذلك شيء لم يثبت) انتهى
وعليه، نجد أنَّ المسألة خلافية بين العلماء – رحمهم الله -.
أمَّا قول العكبري: (ويضعف أن تكون بمعنى " الذي "، لأنَّ " الذي " يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هاهنا على الإبهام، والتقدير: ومن الناس فريق يقول)
ففيه نظر، لأنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصود بالأصالة، اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة، وما يتعلَّق به من الصفات جميعًا، لا كونهم ذواتِ أولئك المذكورين.
وهذا هو الراجح – والله أعلم -، لأنَّ الآيات وإن نزلت في أناس بأعيانهم كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، تشمل كلَّ مَن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق.
بقي النظر – أستاذي الكريم – في ما ذهبتُم إليه مِن إمكانية جواز أن تكون " مَن " اسم موصول معرفة بمعنى " الذي "، ويكون التعريف للجنس بالتقدير التالي: " ومن الناس القائل آمنا "، وهو بذلك باق على الإبهام، ولا يتناول قوما بأعيانهم.
أقول: هذا رأي وجيه جدًّا، يدلُّ على رسوخ علمكم – حفظكم الله -، وكأنَّ ابنَ مالكٍ – رحمه الله – قد ذكر هذا القول في " شرح التسهيل "، أو هكذا فهمتُ منه:
(والمشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة، وذلك غير لازم، لأنَّ الموصول قد يراد به معهود، فتكون صلته معهودة، كقوله تعالى: {وإذْ تَقولُ لِلَّذي أنعمَ اللهُ عليهِ وأنعمتَ عليهِ} الأحزاب 37.
وكقول الشاعر " من الطويل ":
ألا أيُّهذا القلبُ الذي قادَهُ الْهوَى * أفِقْ لا أقرَّ اللهُ عَينَكَ مِن قلبِ
وقد يرادُ به الجنس، فتوافقه صلته، كقوله تعالى: {كَمَثلِ الَّذي يَنعِقُ بِما لا يَسمَعُ إلاَّ دُعاءً ونِداءً} البقرة 171.
وكقول الشاعر " من الطويل ":
ويَسْعَى إذا أبْني لِيَهدِمَ صالِحي * ولَيسَ الذي يَبني كَمَنْ شَأنهُ الْهدمُ
وقد يُقصَد تَعظيمٌ، فتُبهم صِلتُه، كقول الشاعر " من الطويل ":
فإنْ أسْتَطعْ أغْلِبْ وإن يَغلبِ الْهوَى * فَمثلُ الذي لاقيتُ يُغلَبُ صاحِبُهْ
ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {فَغَشِيَهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهمْ} طه 78.
وقول الشاعر " من الطويل ":
وكنتَ إذا أرسلتَ طَرفَكَ رائدًا * لِقَلبِكَ يومًا أتْعَبتْكَ الْمناظِرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ * عَليهِ ولا عَنْ بَعضِهِ أنتَ صابِرُ) انتهى
والله أعلم
ختامًا – أستاذي الكريم -، أرجو أن أكونَ قد اقتَربتُ خطوة إلى الصواب، كما أرجو أن تتفضَّل بإكمال النقص، وتصحيح الفهم.
دمتَ بكلِّ الودِّ والتقدير، مع عاطر التحايا
ـ[أبوأيمن]ــــــــ[18 - 01 - 2005, 01:18 م]ـ
قال أبو البقاء في إعراب " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ "
[والمفعول القائم مقامَ الفَاعل مَصدر وهو القَولُ وأضمر لأن الجملة بعده تفسره، والتقدير: وإذا قيل لهم قَوْلٌ هو لا تفسدوا ونظيره "ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ" أي بدا لهم بداء و رأي، و "قيل لهم" هو القائم مقام الفاعل وهو بعيد، لأن الكلام لا يتم به، وما هو مما تفسره الجملة بعده، ولا يجوز أن يكون قوله: لا تفسدوا قائما مقام الفاعل، لأن الجملة لا تكون فاعلا فلا تقوم مقام الفاعل، ولهم في موضع نصب مفعول قيل.]
أليس الأولى أن يكون "لا تفسدوا" هو نائب الفاعل و الجملة "لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ" و إن تعددت كلماتها فهي لفظة محكية؟
ألا ترون أستاذي الجليل أن في تقديره " وإذَا قِيلَ لَهُمْ قَوْلٌ هُوَ لاَ تُفْسِدُوا" تكلف، و أن هذا التقدير يصح لو كان تقدير الكلام عند البناء للمعلوم نحو "وإذا قال لهم قولا لا تفسدوا"؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا
¥