جادتْ عليه كلُّ عَينٍ ثَرَّةٍ * فترَكْنَ كلَّ قَرارةٍ كالدِّرْهمِ
يريد: صيَّرن) انتهى
قلت، ويُروَى
جادتْ عليه كلُّ بِكْرٍ ثَرَّةٍ * فترَكْنَ كلَّ حَديقةٍ كالدِّرْهمِ
وجعل ابن هشام في " شذور الذهب " فِعل " التَّرك ": من أفعال التصيير، وهو ممَّا يتعدَّى لمفعولين، أولهما وثانيهما: مبتدأ وخبر في الأصل.
ووافقه الخضري، في " حاشيته "، وقال:
(وأصل " تَرَك " كونها بمعنى: طَرح وخلَّى، فلها مفعول واحد، فضُمِّن معنى: صيَّر، فتعدَّى لاثنين، مثله نحو قوله تعالى: {وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} البقرة 17) انتهى
وهو ما قرَّره جميل ظفر في " النحو القرآني، قواعد وشواهد "، أنَّ الفعل " ترك " يجوز أن يكون من أفعال التصيير، التي تسمَّى أيضًا أفعال التحويل، وتنصب مفعولين.
ومن شواهده، قوله تعالى: {وتَركْنا بَعضَهم يَومَئذٍ يَموجُ في بَعضٍ} الكهف 99
وقال أبو حيَّان:
(الترك: التخْلِية، اتْرُك هذا، أي: خلِّه ودَعْه، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف، الأصح جواز ذلك) انتهى
وقال السمين:
(وأصل الترك: التخلية، ويُراد به التصيير، فيتعدَّى لاثنين على الصحيح، كقول الشاعر:
أمَرْتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرتَ بهِ * فقد تركتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ) انتهى
ومن شواهده أيضًا، قول عنترة:
فَترَكْتُهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ * ما بَينَ قُلَّةِ رَأسِهِ والمِعْصَمِ
ويٌروَى:
فَترَكْتُهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ * يَقْضمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمِعْصَمِ
وتجدر الإشارة إلى أنه قد ورد هذا الفعل في عدَّة مواضع من القرآن العظيم، ومنها:
قوله تبارك وتعالى: {فَتَرَكَهُ صَلدًا} البقرة 264
وقوله تعالى: {وإذا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوكَ قائِمًا} سورة الجمعة 11.
وقوله عزَّ اسمه: {ما قَطَعْتُم مِن لِينةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً علَى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الحشر 5.
وقوله جلَّ وعلا: {واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا} الدخان 24.
وقوله عزَّ في علاه: {أتُتْرَكُونَ في ما هَهُنا ءَامِنِينَ} الشعراء 146.
وأعود الآن للنظر في توجيه الإعراب.
الفعل " تَرك " يتعدَّى لمفعول واحد، عند مَن يرَى أنَّ " ترك " بمعنى خلَّف أو أبقَى.
وعليه، يكون الضمير المتصل بالفعل مِن {تَركَهُم} هو مفعوله.
{في ظُلُماتٍ}، {لا يُبصِرونَ} حالان.
قاله ابنُ هشامٍ في " مغنيه "، ومثَّل بقوله:
(وتقول: " تركتُ زيدًا عالمًا "، فإن فسَّرت تركت بـ" صيَّرت "، فـ" عالمًا "، مفعول ثان، أو بـ" خلَّفت " فحال) انتهى
وقال أبو حيَّان في " بحره ":
(وإن كان ترك متعديًا لواحد، فيحتمل أن يكون {في ظُلُمات} في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف.
و {لا يُبصرون} في موضع الحال أيضًا.
إمَّا من الضمير في {تركهم}.
وإمّا من الضمير المستكن في المجرور، فيكون حالاً متداخلة.
وهي في التقديرين حال مؤكدة، ألا تَرى أنَّ مَن تُرِك في ظُلمة لَزِم من ذلك أنه لا يُبصر؟) انتهى
قلتُ: ووافقه السمين الحلبيُّ، في " درِّه ":
أمَّا على الرأي الثاني، وهو أنَّ " ترك " بمعنى: صيَّر، وهو ما ذهب إليه صاحبنا، في " تبيانه "، فقد ذكر ابنُ هشامٍ توجيه إعرابه في " مغنيه "، وقال:
(وإذا حمل قوله تعالى: {وتَركَهم في ظُلُمات لا يُبصرونَ}،
على الأول: فالظرف و {لا يُبصرونَ} مفعول ثانٍ تكرر كما يتكرر الخبر.
أو الظرف مفعول ثان، والجملة بعده حال.
أو بالعكس) انتهى
قلتُ: يعني بـ" الأول "، أي: تَركَ بمعنى: صيَّر.
ويعنى بـ" الظرف "، أي: الجار والمجرور {في ظُلُماتٍ}.
وقد وافق ابنُ هشام أبا البقاء العكبري، في جواز أن يكون الظرف حالاً، وهو ما ردَّه أبو حيَّان، ووافقه تلميذُه السمين.
قال أبو حيَّان:
(وإن كان {تَرك} ممَّا يتعدَّى إلى اثنين،
كان {في ظُلُماتٍ} في موضع المفعول الثاني، و {لا يُبصرون} جملة حالية.
ولا يجوز أن يكون {في ظُلُماتٍ} في موضع الحال، و {لا يُبصرونَ} جملة في موضع المفعول الثاني.
وإن كان يجوز: " ظننتُ زيدًا منفردًا لا يخافُ "، وأنت تريد: ظننتُ زيدًا في حال انفراده لا يخافُ.
¥